احمد سليمان العمري - صورة شخصية
شخصيات ليسوا من عامّة الناس، إنّما مدراء مخابرات أو رؤساء مؤسّسات دولة، وحكّام تتلقّى دولهم مساعدات أوروبية وأمريكية لفقرها.
أثار هذا التسريب ضجّة عالمية بسبب قانون البنوك السويسرية وسياسة البنوك التي تحمي لا بل تساعد بطريقة ممنهجة لإيداع أموالٍ مصادرها مقدّرات أوطان وإجرام.
بدأ البنك السويسري الذي يحتلّ المركز الثاني على مستوى الدولة بعد تسريب بيانات عملائه بالتأرجح، ممّا دعا الاشتراكيون الديمقراطيون السويسريون إلى تغيير القانون، مرفقاً بتحذير من منظمات صحافية وإعلامية من تقييد قانون البنوك لحرية الصحافة.
تبيّن أنّ البنك في السنوات الأخيرة يغطّي قضايا أرصدة أصولها فساد ويُقبل على عثرات قانونية كثيرة.
مؤسّسات إعلامية ألمانية بعضها متلفزة سلّطت الضوء على النُخب في العديد من البلدان النامية والماضي المظلم لـ «كريدي سويس»؛ ماضٍ قد تضرب عواقبه الآن مستقبل البنك بشدة. منذ الأربعينيات وحتى العقد الماضي والبنك يقدّم لأرصدة المجرمين والسياسيين الفاسدين ورؤساء الأجهزة السّرّية المثيرين للجدل ملاذاً آمنا.
قام مجهول بتسريب مجموعة بيانات لصحيفة «SZ زوددويتشه تسايتونغ»، «NDR نورددويتشر روندفونك» و«WDR إذاعة غرب ألمانيا» لعرضها للرأي العام، وأرفق مع البيانات خطاباً قال فيه: «أعتقد أن السّرّية المصرفية السويسرية غير أخلاقية (...). هذا الوضع يُمكّن الفساد ويحرم البلدان النامية من عائدات الضرائب ومقدّرات أوطانها».
تقارير من شأنّها تكملة ما بدأته «أوراق بندورا». ولكنّ حكّام العرب براء دائماً كالعادة، والدليل هي جلّ أصوات الشعوب المتعالية «المعثّرة» والطفرانة والجوعانة والمديونة والمحبوس بعضها، لأنّها تجرأت أمام ولي الأمر وقالت: «لا يجوز»؛ تلك هي التي ستقف للدفاع عن سيف الدولة.
عندما نشرت «زوددويتشه تسايتونغ» يوم الأحد 20 فبراير/شباط حول العلاقات المشكوك بها بين البنك والعملاء وجدت بعض وسائل الإعلامية السويسرية نفسها مضّطرة للحديث عن الفضيحة، فنشرت صحيفة «نويه تسوريشر تسايتونغ»، «لوتون» و «20 دقيقة» عناوين مقتضبة، بعضها كتب «فضيحة جديدة» وأخرى كتبت «أعمال كريدي سويس القذرة»، وكأنّ التقرير وليس المحتوى هو الخبر.
اللافت للنظر أنّ تسريبات البيانات والآلية التي خرجت من خلالها إلى الضوء لعبت دوراً جانبياً في المواقع الإخبارية السويسرية، وهي والمعنيّة بذلك لم تشارك في التحرّي رغم أنّ «الإئتلاف التجاري» قد تواصل مع بعضها.
في خضم الجدل الدولي وافق «أندريا كاروني» السياسي السويسري الذي دعا في عام 2015م إلى توسيع المادّة 47، من قانون البنوك لعام 1934م، والذي يُشدّد ويحظر على الصحفيين تقييم البيانات المصرفيّة السّرّية حتى لو كانت للمصلحة العامّة. بالمقابل اتخذ محرّرو «تاميديا» موقفاً أكثر وضوحاً بشأن هذه النقطة وتعاونوا مع «زود دويتشه تسايتونغ». وتاميديا هي مجموعة إعلامية خاصّة ضخمة في سويسرا، فقد وظّفت في عام 2020م ما مجموعة 3632 موظفاً، في سويسرا والدنمارك ولوكسمبورغ وألمانيا.
العميل فوق القانون
ولكن على ما يبدو أنّ عمل البنوك هو الأهم وليس القانون، ولهذا السبب تحديداً تحتاج سويسرا إلى الصحفيين الذين يُسمح لهم بالبحث والتحرّي دون قيود قانونية، من شأنها دعم الفساد بإسم حماية العميل. «إنّه لمن العار أنّ يفعل الزملاء الأجانب الآن هذا الشيء من أجلنا». حسب صحيفة «تاغيز أنتسايغر».
وعلى المستوى الأوروبي قال الأمين العام للاتحاد الأوروبي للصحفيين «ريكاردو جوتيريز» أنّ سويسرا لا تحترم المعايير القانونية الأوروبية المتعلّقة بحريّة التعبير وحريّة الصحافة، فالدولة تضع المصالح الخاصّة للمصرفيين قبل المصلحة العامّة. أشبة ما يكون بالأنظمة الإستبدادية.
وفي سويسرا قالت عضو المجلس الوطني للديمقراطيين الاجتماعيين «سميرة مارتي» أنّ المادّة الرقابية التي تحظر وسائل الإعلام السويسرية من الكشف عن الجرائم الضريبية يجب أن تتغّير، كما وأشار رئيس حزبها «سيدريك فيرموت» إلى مبادرة أخرى من قبل حزبه، والتي تهدف إلى تشديد العقوبات المفروضة على هيئة الإشراف بالسوق المالية السويسرية.
بالمقابل أحرجت هذه التصريحات «أندريا كاروني» الذي يتبنّى سياسة الخصوصية في البنوك ومنع العمل الصحافي من التدخل في بياناتها، وتصريحه مشهور في هذا الصدد، وأعيد تداوله يوم الأحد الماضي 21 فبراير/شباط : «ليس من عمل الصحفيين نشر بيانات سرّية وشخصية مسرّبة»، إبّان مناقشة قانون البنوك لعام 2014م.
من ناحية أخرى طالبت منظمة الشفافية الدولية ومراسلون بلا حدود الحكومة السويسرية والبرلمان بتعديل القانون وبالعمل الجدّي حيال المادّة 47 من قانون البنوك السويسري، والتي تشكلّ تهديداً لا يطاق لحريّة المعلومات المتمثّلة بالصحافة.
بنك «كريدي سويس» يتيح بمنهجية لتمكين الجرائم المالية، لا بل ويساعد المسؤولين الفاسدين في جميع أنحاء العالم في غسل أموالهم ويقدّم نصائح عن الآلية الأفضل لذلك.
بينما تدعو الحكومات في جميع أنحاء العالم إلى اتخاذ إجراءات حاسمة ضد مثل هذا السلوك البنكي؛ من شأنه تمكين الفساد وإفقار الشعوب حيث ينشغل الحكّام العرب بالدفاع عن أنفسهم وتقدّم ذرائعاً واهية أقرب إلى السخرية حول تضخّم أرصدتهم في سويسرا.
الكلبتوقراطية وبسط الطبقية
كلّما تفاقمت الكلبتوقراطية يزداد الفقر عند الشعوب ويكثر الولاء للحاكم. معادلة تخاطب الواقع، فالدولة تصفع باليمين وتشرع الشمال ليُقبّلها العديم. سياسة دول وممارسات من شأنها خلق الطبقية الممنهجة.
أكثر عملاء «كريدي سويس» حساسية هم حكّام الدول الفقيرة وأعوانهم؛ يقتاتون من رغيف الفقير. لائحة تسريب الأسماء كبيرة ولا أجد داعيا لذكرها، وهي موجودة في الصحف لمن أرادها.
حصيلة الأرصدة الأوروبية الموجودة في هذا البنك بسويسرا لا تتجاوز ١٪، بينما جنوب أمريكا، باكستان وآسيا، والشرق الأوسط وجلّ المنطقة العربية مثل ليبيا، مصر، العراق، الجزائر، عُمان واليمن التي تعاني حرباً أهلية وجوعاً يستأثر رئيس مخابراتها السابق على مقدّرات وطنه الجريح، والأردن رجلها الأول الملك عبدالله هو أيضاً صاحب أصول وأرصدة فيه، ومعه سمير الرفاعي، تقلّد مناصب لا تحصرها مقالة، وآخرها الحالية، رئيس اللجنة الملكية لتحديث المنظومة السياسية، والملك من حجم ثقته به عهد إليه برئاستها.
في أوج الربيع العربي عام 2011م كان الرفاعي يترأس رئاسة الوزراء وأسقطته المظاهرات العارمة في الشوارع حينها. يبدو أنّه لم يسقط فعلياً، هذا لأنّ التسريب السويسري كشف أنّه أفتتح حساباً ثالثاً في ذات البنك بعد بضعة أشهر فقط.
وعندما سُئل الرفاعي عن هذه الأصول، قال: جاءت من بيع الأراضي الموروثة والعقارات. جواب لا يختلف من حيث الاستخفاف عن أرصدته في سويسرا.
ولا ننسى مدير المخابرات العامّة ورئيس جهاز الأمن القومي الأردني المقترح، سعد خير. شخصيات يتسلّمون رئاسة مؤسّسات من شأنها الحفاظ على الوطن، وبدلاً من ذلك يسرقون مقدّراتها.
أرقاماً كافية لإخراج الأردن من أزمتها الإقتصادية، وتسليم مناصب لأصحاب شبهات وصلت سمعتهم السيئة العالم مدعاة للتفكّر، والغريب أنّ جلّ عامّة الشعب يصفّق. مؤسّسات ودوائر حسّاسة في الدولة يتسلّمها تجّار وطن.
الذرائع الواهية التي قدّمها الديوان الملكي حول حسابات الملك وزوجته مخجلة ومُعيبة. ما الذي يدفع ملك البلاد لفتح أرصدة في بنوك سرّية بالمليارات خارج دولته؟ لأنّ الأردن مستهدف مثلاً؟
الآلية البنكية التي ينهجها البنك الأخير قائمة على الفساد والتهرّب الضريبي والأهم السّرّية التي تحمي عملائهم وتمكّنهم من سرقة مقدّرات أوطانهم.
أرصدة البنوك السويسرية، وتحديداً الذي نحن بصدد الحديث عنه، هي المؤشّر الرئيس إلى الفساد ومصادر الأموال والأصول غير القانونية، وإلّا لكان الإيداع بشكلّ علني في الدولة التي يحكمها رئيس الدولة أو رئيس وزرائها أو مدير مخابراتها، ولشاركهم الموظّف والراعي والفلاح ذات البنك. غريب!
التسريب البنكي وأسماء حسّاسة تصدّرتها لائحة التسريب ذكرّتني بالمثل الأردني القائل:
«التلم الأعوج من الثور الكبير».
هذا المثل يختصر الحال في الدول «المستوية» وفي الطليعة العربية. لمن لا يعرف «التلم» فليسأل صاحبه الفلاح، الفلاح سابقاً، هذا لأنّ أرضنا بارت وباعوها للحريري وآخرين.