المحامي زكي كمال
ويقينًا، قبل أن تتضح هويّة المنتصر والخاسر، أو هويّة من سيقطف ثمار الوساطة وهالتها، مع التأكيد على أنّ لا منتصر في الحرب، بل إن الجميع يخسرون، لذلك، يمكن القول إنها حرب ليست كباقي الحروب، فهي تدور في الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعيّ في أمريكا وأوروبا وإسرائيل وغيرها، كما تدور في ساحة المعركة، بل ربما أكثر، بمعنى أنّ الإعلام يلعب في هذه الحرب دورًا لم يلعبه من قبل، وبشكل يمكن وصفه بأنه مقارنةً بالتغطية الإعلاميّة لحرب الخليج الثانية، عام 2003، من قبل شبكة " سي إن إن "، ومراسلها في بغداد بيتر أرنيت، وهو الصحفي الغربيّ الوحيد الذي بقي في العراق حينه، وحاول قدر الإمكان وأمام سيل جارف من التغطية الإعلاميّة العربيّة تحدثت بنبرة واحدة وصوتٍ واحد، نقل الصورة الحقيقيّة لما يحدث على أرض الواقع، يشكّل حالة غير مسبوقة من التأدية الإعلاميّة التي تنير الضوء الأحمر معلنة انهزام الموضوعيّة الإعلاميّة، وكلّ ما تعنيه من تقصٍّ للحقائق وإسماع للصوت والصوت الآخر وسرد كافّة الروايات، ومنح المتلقي والمستمع والمشاهد إمكانيّة، بل حريّة بلورة الرأي والموقف، وفق تعريف واضحٍ لدور الإعلاميّ في نقل الصور والوقائع دون أن يتحوّل إلى قاضٍ يصدر الأحكام جزافًا وإلى متحدّث باسم طرف ينقل روايته ويجَيِّر كافة الأحداث خدمة لها.
" أول ضحايا الحرب "
قبل الخوض في السؤال أو المعضلة الواردة سابقًا، حول ما إذا كان الإعلام الغربيّ بكافة وسائله ومواقعه وانتماءاته، يؤدّي دوره كما يجب أو بموضوعيّة وحياديّة قدر الإمكان، يحضرني قول هيرمان جونسون، أنّ الحقيقة هي أوّل ضحايا الحرب، وهو قول تؤكّده أيام هذه الحرب، ويزداد وضوحًا مع تقدّمها وازدياد عددها، إذ يبرز دور الإعلام الأمريكيّ في تكريس الرواية الأمريكيّة وفرضها دون نقاش أو حوارٍ على كافّة وسائل الإعلام الغربيّة بما فيها الإسرائيليّة ومعظم وسائل الإعلام في الدول العربيّة وإسرائيل باعتبارها " الرواية الوحيدة والصحيحة والمهيمنة، وما غيرها ما هو إلا تسييس وفبركات إعلاميّة تجانب الحقيقة ". وهي رواية تركّز على تعزيز العصبيّة والتعصّب الأمريكيّ، ومحاولة توصيف أنّ ما تقوم به روسيا على أنّه الكابوس المقبل على الولايات المتحدة الأمريكيّة، وهو ما كانت بذوره الأولى متزامنة مع غزو أفغانستان بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر عام 2000، وغزو العراق ومعاداة إيران النوويّة لأنّها خطر على أمريكا، مع التركيز على شيطنة روسيا وخاصةً الرئيس الروسيّ فلاديمير بوتين، وتؤكّد أنّ هذه الحرب وحشيّة على المدنيين، ما يجعل التغطية الإعلاميّة الغربيّة للحرب في أوكرانيا، تفتقر إلى الموضوعية والتوزان، إضافة إلى أنّ هذه التغطية استحضرت الاصطفافات والتجاذبات السياسية وكرّستها، أثناء معالجة القضيّة إعلاميًّا بشكل أثّر على مصداقيّة الرسالة المقدّمة للمشاهد، فالإعلام الغربيّ يصوّر مآسي الشعب الأوكرانيّ، لكنّه لا يعرض طروحات الطرف الروسيّ الذي يحتجّ على وجود الناتو على حدوده، ناهيك عن أنّه يُكثِر من تغطية الحرب عبر استخدام الإطار الإنسانيّ، ويعمد إلى تصدير الحدث إعلاميًّا ووضعه في مستهلّ النشرات، ليقتنع المتلقي بأهميّته أكثر من غيره، ومن ثمّ يتم تأطير هذا الحدث المتصدر من خلال استخدام اللغة، والموادّ المساندة من صور وخرائط لتحقيق غايات غير إعلاميّة ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالرواية الرسميّة للدول المختلفة.
" المأساة الأكبر "
التغطيّة الإعلاميّة وموجات البثّ التلفزيونيّ والإذاعيّ المفتوحة التي تمّ توظيف عشرات، بل مئات المراسلين للعمل فيها، والاستجابة لطلبات إن لم يكن نزوات المحرّرين والمسؤولين، تعكس بأفضل شكل، بل بأقسى وأبشع صورة، العقليّة الشائعة في الصحافة الغربيّة بما فيها الإسرائيليّة التي تعتبر المأساة في أوروبا البيضاء، حدثًا تهتزّ له أركان البسيطة، ويذرف المراسلون والمعلقون فيه الدموع حرقةً وألمًا على تدفّق أكثر من مليوني لاجئ أوكرانيّ إلى بلاد أوروبيّة مجاورة لهم، فقامت وسائل الإعلام بنقل التقارير عنهم وتبجيلهم ومطالبة روسيا بوقف المجازر وإبادة الشعب الأوكرانيّ، والدعوة إلى فتح حدود الدول الأوروبيّة على مصراعيها، لاستقبال واستيعاب اللاجئين خاصًة وأنّهم " منّا وفينا " فبشرتهم بيضاء وعيونهم في كثير من الأحيان زرقاء وشعرهم أشقر، وهم متحضّرون وليسوا من بلاد الشرق "ا لمتخلّفة وغير المتحضّرة "، إضافة إلى وصف الحرب بأنّها المأساة الأكبر في أوروبا منذ 1945، مقابل التعامل مع المأساة في بعض مناطق العالم - مثل الشرق الأوسط وأفريقيا وجنوب آسيا وأمريكا اللاتينيّة - على أنّها أمر طبيعيّ، وليس هذا فقط، بل إنّنا " وبفضل ومنّة " من وسائل الإعلام الغربيّ والإسرائيليّة، نكتشف كلّ يوم أنّ القانون الدوليّ لا يزال موجودًا، وأنّ قصف عاصمة دولة ما وتهجير مواطنيها هو جريمة خطيرة تستوجب تحقيقًا من محكمة الجنايات الدوليّة، وأنّ احتلال أراضي دولة جارة أو كيان جار يُردّ عليه بصرامة وعقوبات اقتصاديّة لا تستهدف القيادات السياسيّة والعسكريّة للدولة التي احتلّت فقط، بل عقوبات تطال حتى مواطنيها، وهو في هذه الحالة وكلّ الحالات لا ذنب لهم في سياسات حكوماتهم، حتى لو كانوا من مؤيّدي رئيسها أو رئيس الدولة، وأنّ اللاجئين مرحّب بهم على أساس المكان الذي يأتون منه، وأنّ مقاومة المحتلّ، وليست معاداة للساميّة كما قيل لنا، بل ما زالت حقًّا مشروعًا يجب الدفاع عنه، بل إمداده بالعتاد والسلاح، وليس ذلك فحسب، بل إنّه دعمًا لهذه المقاومة الحقّة ومواجهة فلاديمير بوتين المعتدي السيّء الذي يريد سلب جيرانه حريّتهم، يحقّ لوسائل الاعلام هذه أن تبث أشرطة فيديو إرشاديّة نقلًا عن التلفزيون الأوكرانيّ تشرح للجميع كيفيّة تحضير العبوات الناسفة المنزليّة وقنابل أو زجاجات المولوتوف، كما أنّ وسائل الإعلام " أعادت إلى أذهاننا " أنّ العقوبات تبدو ردًّا ناجعًا على الانتهاكات، وأنّ العالم الغربيّ المتحضّر عرَّاب حقوق الإنسان يعتبر قصف عاصمة ما لدولة أوروبيّة مجاورة، أو مدينة عاديّة من مدنها، جريمة يندى لها الجبين، وهو الذي صمّ آذانه وأغلق عيونه عن اجتياح بيروت عام 1982 وقصف العاصمة اليمنيّة صنعاء منذ 2016، وهو الذي اتّخذ القرار تلو القرار منذ 1967 مطالبًا إسرائيل بالانسحاب من الأراضي الفلسطينيّة والسوريّة والأردنيّة المحتلّة، دون تنفيذ، قبل أن تقرّر أمريكا دونالد ترامب الاعتراف بحقّ إسرائيل في الجولان خلافًا لقرارات الأمم المتحدة وموافقتها على ضمّ غور الأردن والضفة الغربيّة إلى إسرائيل، بل إنّها هي نفسها الدول التي شاركت في احتلال بغداد استنادًا إلى معلومات استخباريّة مفبركة جاءت لخدمة خطط عسكريّة كانت وضعتها منذ سنوات، وشاركت في قصف سوريا وتهجير ملايين اللاجئين منها، بينما هي تغلق حدودها أمامهم خشية " تغيير المبنى والتركيبة الديمغرافيّة والمسّ بالاقتصاد " فهم يختلفون شكلًا ولغةً ولونًا " كما قال شارلي داغاتا الموفد الخاصّ لقناة " سي بي إس نيوز " الأمريكيّة إلى أوكرانيا: "مع خالص احترامي، فإنّ هذا ليس مكانًا مثل العراق وأفغانستان اللذين عرفا عقودًا من الحروب، إنّها مدينة متحضّرة نسبيًّا، أوربيّة نسبيًّا، فالتهجير حكر على الشرق واللجوء من نصيبه فقط، ولا يليق بالغرب ". وفتح الحدود حقّ للاجئين البيض وحرام على أصحاب البشرة الحنطيّة والسمراء، فما بالك بالأفارقة، في انعكاس لميزان أعرج يستخدمه الغرب والأقوياء من المواقع الأُخرى يمنحون فيه لنفسهم فقط حقّ السماح بما يشتهون، ومنع ما يكرهون بل تحريمه.
" تعد على المصالح "
وإذا لم يكن كلّ ذلك كافيًا فقد غَيَّبَت وسائل الإعلام الغربيّة الرواية الروسيّة تمامًا، وأقصت مندوبي روسيا عن نشراتها وموجاتها، أو عاملتهم منذ البداية معاملة المتهم إن لم يكن المجرم الذي لا يحقّ له شرح موقف بلاده والتعبير عن مخاوفها، واعتبارها مبرّرًا أو سببًا للحرب، خاصّة أنّه يعتبر توسيع الناتو وضمّ دول الجوار وخاصّة أوكرانيا، تعدّيًا على المصالح الوطنيّة والقوميّة ونصبًا للصواريخ على عتبة البيت الروسيّ، وليس على بعد عشرات آلاف الكيلومترات كما هو البعد بين واشنطن وكابول، أو بين واشنطن وبغداد أو طهران.
كما تنازلت الصحافة طوعًا عن واجبها بتقصّي الحقائق ومراجعة الوقائع، وأنّها معفيّة من ذلك، فقبلت الرواية الأمريكيّة - الأوكرانيّة – الغربيّة على علّاتها دون تقصٍّ أو بحثٍ لأمور أساسيّة واضحة وجليّة منها إصرار واشنطن - وهي ليست عضوًا في الناتو - على توسيع نطاقه وزيادة عدد أعضائه من 13 حين تفكيك حلف وارسو إلى نحو 30 اليوم، واقتران ذلك بنصب الصواريخ والأسلحة الهجوميّة على أراضي الدول الأوروبيّة المجاورة لروسيا، رغم تكرار الناتو الإعلان عن أنّها حلف دفاعيّ، كما تجاهلت أسابيع متواصلة من تسريب معلومات استخباريّة أمريكيّة حول استعدادات روسيّة لغزو أوكرانيا دون أن تحاول الصحف ووسائل الإعلام التيقّن منها، أو محاولة فهم أسباب ما يحدث، ودون التساؤل البسيط : لماذا لم تتّخذ أمريكا والناتو وحتى أوكرانيا نفسها، أي خطوات لتخفيف حدّة التوتّر من جهة أو للاستماع إلى الموقف الروسيّ، أو حتى لمواجهة التدخّل العسكريّ الروسيّ، علمًا أنّه رافق كلّ ذلك تصريحات واضحة أمريكيّة وأوروبيّة بأنّ الناتو لن يتدخّل في أيّ صدام عسكريّ هناك، وهو ما يعيد إلى الأذهان تجارب ماضٍ ليس ببعيد، ويرسم صورة طبق الأصل لما حدث مطلع تسعينيات القرن الماضي حول غزو العراق للكويت وتحديدًا ما قالته سفيرة الولايات المتحدة أبريل غيليسبي 25 تموز 1990 أي قبل غزو الكويت بأسبوع واحد خلال مقابلة دعيت إليها مع الرئيس العراقيّ صدام حسين، إذ أعلنت باسم الخارجيّة الأمريكيّة، أنّ بلادها بشكل عام لم تتدخّل قطّ في الخلافات الحدوديّة بين العراق والكويت منذ 1960، وأنّ لا علاقة لأمريكا بالخلاف الحدوديّ العراقيّ – الكويتيّ، وهي أقوال شكّلت فخًّا للرئيس العراقيّ، والذي فهمها على أنّها ضوء أخضر لغزو الكويت، أو أنّها تصريح بأنّ أمريكا لن تمنع ذلك، وهو ما اتضح زيفه إذ ما لبثت أمريكا أن شكّلت ائتلافًا من 42 دولة عمل بقوة النار والحديد على إخراج الجيش العراقيّ من الكويت، معلّلة ذلك بمعلومات استخباريّة، كاذبة ومفبركة كما اتضح لاحقًا، مفادها أنّ العراق أدخل الى الكويت مئات آلاف الجنود بكامل عتادهم ما يهدّد مصالح الدول الخليجيّة المجاورة للكويت، وهي دول حليفة لأمريكا، وفوق كلّ ذلك دول نفطيّة، ما أدّى إلى شنّ حرب الخليج الأولى على العراق بمبادرة وتخطيط إدارة أمريكيّة، شكّل أرباب وأصحاب صناعات النفط غالبيّة مسؤوليها بما في ذلك وزير الخارجيّة آنذاك، وهو ما تكرّر مرّة أخرى مع نفس الإدارة الأمريكيّة في 5 شباط عام 2003، حيث ألقى وزير الخارجية الأمريكية آنذاك، كولن باول، أمام الرأي العالم العالميّ، خطابًا امتدّ ساعة وربع الساعة، قبل ستة أسابيع على بدء الحرب، وتحدّث فيه عن ضرورة غزو العراق، ساق خلاله الوزير الذي شارك في قيادة حرب الخليج الأولى عام 1991، تحت إدارة جورج بوش الأب، حزمة مزاعم تتضمّن صورًا للأقمار الاصطناعيّة وتسجيلات صوتيّة أمام المجلس عن أدلّة قويّة، تثبت امتلاك العراق لأسلحة نوويّة، فقامت الحرب على هذا الأساس، ليعترف بعد نحو 3 سنوات من الغزو في لقاء مع وكالة " إي بي سي " التلفزيونيّة الأمريكيّة نُشر في أيلول 2005، إنّ وكالة المخابرات الأمريكيّة خدعته بتزويده بمعلومات مضلّلة، وأنّ بعض العاملين في الوكالة يعرفون أنّ هذه المعلومات غير موثوقة، لكنّهم لم يقولوا شيئًا، وهو ما قال عنه راي ماكغوفرن، أحد المخضرمين في وكالة الاستخبارات الأمريكيّة، والذي عمل لصالح الوكالة لمدّة 27 عامًا، في مقابلة صحفيّة إنّ المعلومات الاستخباراتيّة لم تكن خاطئة فحسب، وإنما كانت مزيّفة أيضًا، علمًا أنّ شبكة " آي بي سي " التلفزيونيّة الأمريكيّة كشفت عن أنّ مصدر هذه المعلومات هو منشقّ عراقيّ يقيم في ألمانيا، أعطى الاستخبارات الأمريكيّة المعلومات المفبركة عن الأسلحة البيولوجيّة لنظام صدام حسين، الأمر الذي أدّى إلى الحرب على العراق، وقالت مصادر استخباريّة إنّ الرجل يعيش في ضواحي مدينة ميونيخ الألمانيّة تحت حماية الشرطة، وأنه زوّد المسؤولين الأمريكييّن بمعلومات زعم فيها أنّ الحكومة العراقيّة أثناء عهد صدام حسين تملك مختبرات أسلحة بيولوجيّة نقّالة الأمر الذي عزّز من قناعة الأمريكيّين بضرورة شنّ الحرب على العراق وغزوه في العام 2003، وأنّه أراد من كلّ ذلك ضمان بقائه في ألمانيا والأنكى من ذلك ما اتضح من أنّ كثيرين من مسؤولي المخابرات الأمريكيّة كانوا يعرفون أنّ المعلومات غير صحيحة، وأنّ المصدر غير موثوق، لكنّهم التزموا الصمت من منطلق أنّ إدارة بوش خططت مسبقًا لغزو العراق والإطاحة بنظام صدام حسين، وأنّها بحثت عن السبب بل فبركته، تمامًا كما كان الحال حين اتّهم الغرب نظام بشار الأسد باستخدام غاز الخردل والأسلحة الكيماويّة ضدّ المواطنين في الغوطة، ليتضح أنّ مخابرات هذه الدول كانت تعرف أنّ المعارضة السوريّة، أو ما اعتاد الجميع تسميته " الجيش السوري الحرّ " استخدم الأسلحة الكيماويّة دون إعلان ذلك لمصلحتها.
" مراجعة الحقائق "
من المعروف انه بعد الحرب العالميّة الثانية لم تكبد وسائل الإعلام ولا الحكومات الغربيّة نفسها عناء مراجعة حقائق ووقائع الحروب التي خاضتها روسيا منذ 30عامًا ونيّف، ومساهمة الغرب عامّة وأمريكا خاصّة في خلق الظروف لها، بل ربّما زج روسيا فيها، إذ دخل الجيش الروسيّ في عدّة حروب ومواجهات عسكريّة شملت عدّة بلدان منذ انهيار الاتحاد السوفياتيّ سابقًا في 1991. فمن الشيشان التي خاضت روسيا فيها حربين دمويّتين في 1994 و1999 أدّت لمقتل عشرات الآلاف، إلى جورجيا في 2008 إذ ردّ الجيش الروسيّ على عمليّة عسكريّة شنّتها تبليسي، بدعمٍ أوروبيّ وأمريكيّ، ضد أوسيتيا الجنوبيّة الانفصاليّة بهجوم ساحق استمرّ 5 أيام خلفت مئات القتلى، وفي تشرين الأول1999، وبدفع من رئيس الوزراء حينها، فلاديمير بوتين الذي انتخب بعد ذلك رئيسًا، دخلت القوّات الروسيّة الشيشان بعد أن انسحبت منها عام 1996، في عمليّة أخرى للقيام بـ" عملية مكافحة الإرهاب "، بعد هجوم شنه الانفصاليّون الشيشان ( دعمتهم أوروبا وأمريكا) على جمهوريّة داغستان في منطقة القوقاز الروسيّة وعدّة اعتداءات دامية في روسيا، نسبتها موسكو إلى الشيشانيّين، وفي صيف 2008 شنّت جورجيا ( بدعم أوروبيّ لكونها عضو في الناتو ) عمليّة عسكريّة دامية ضد منطقة أوسيتيا الجنوبيّة الموالية لروسيا التي خرجت من سيطرة تبليسي منذ انهيار الاتحاد السوفياتيّ، وردّت روسيا بإرسال قوّاتها إلى الأراضي الجورجيّة وألحقت، خلال خمسة أيام، هزيمة ساحقة بالجمهوريّة السوفياتيّة السابقة. وأدّت المعارك إلى مقتل المئات. ثمّ اعترف الكرملين باستقلال أوسيتيا الجنوبيّة وأبخازيا، وأبقى منذ ذلك على وجود عسكريّ كبير فيها، في العام 2014، وبعد أن دعمت أمريكا والغرب الثورة الأوكرانيّة المؤيّدة للاتحاد الأوروبيّ وفرار الرئيس فيكتور يانوكوفيتش إلى روسيا وتنصيب غريمته يوليا تيموشينكو " أميرة للثورة البرتقاليّة " المعادية لروسيا، مع الإشارة هنا إلى نصّ محادثة تمّ تسريبها جمعت سفير أمريكا في كييف جيفري فييات ونائبة وزير الخارجيّة الأمريكيّة لشؤون أوروبا فيكتوريا نيولند ( نائبة وزير الخارجيّة الأمريكيّ الحالي أنتوني بلينكن للشؤون السياسيّة )، دارت حول " نوع السلطة التي تريد الولايات المتحدة خلقها وصياغتها في أوكرانيا بعد تنحية أو إسقاط يانوكوفيتش "، واعلانهما أنّه لا يوجد حتى ذلك الحين قائد يمكنه تولي مقاليد الحكم بعد يانوكوفيتش، ولذلك سيتم اختيار زعيم ما وتحريك الأُمم المتحدة لتنفيذ هذه التحركات كي نظهر وكأنّها عملية ديمقراطيّة وطبيعيّة.
" تكرار لأحداث الماضي "
عام 2015 ضمّت موسكو شبه جزيرة القرم الأوكرانيّة، وهو إجراء لم يحظ باعتراف المجتمع الدوليّ. بعد هذه العمليّة خفّت حدّة النزاع منذ 2015 وتمّ توقيع اتفاق مينسك للسلام الذي ينصّ على صيانة حقوق وحدود الدول كافّة مع مطالبة واضحة روسيّة بعدم توسيع حلف الأطلسيّ، بل تفكيكه بعد انتهاء الحرب الباردة تمامًا كما تمّ تفكيك حلف وارسو، وهو ما لم تحترمه الولايات المتحدة التي جرّت أعضاء الناتو إلى خطوات انتهت إلى توسيع صفوفه ونشر أسلحة هجوميّة على حدود بعض الدول مع الاتحاد السوفييتيّ، وها هو بوتين اليوم يهاجم أوكرانيا التي كرّر قوله أمام الغرب بأنّ انضمامها أو تحرّيًا للدّقة، ضمّها إلى الناتو هو تجاوز لكافّة الخطوط الحمراء وتعدٍّ على مصالح روسيا الأمنيّة والوطنيّة والقوميّة، وهو ما تجاهلته وسائل الاعلام من أنّ بوتين أبلغ الغرب قبل ستة أعوام ونيّف من الحرب الأوكرانيّة اليوم بما سيكون عليه ردّ فعل روسيا إذا حاول الغرب ضمّ أوكرانيا إليه .
ورغم معرفتها أنّ بوتين جادّ في موقفه، وأن أوكرانيا هي خطّ أحمر عملًا وليس قولًا وصولًا إلى حرب تدفع أوكرانيا أوّلًا ثمنها دمارًا وخرابًا وقتلى وجرحى، يجعلها تطالب دون جدوى بتدخّل عسكريّ أمريكيّ وأوروبيّ لن يأتي، في تكرار لأحداث الماضي ولإثبات لا يقبل الشكّ، أو التأويل أنّ أمريكا لا تتوانى عن التضحيّة بدولة بكاملها حتى لو كانت حليفة ( أوكرانيا اليوم أو يوغسلافيا سابقًا أو أفغانستان )، أو غريمة ( العراق مثلًا) إذا كان ذلك يصبّ في مصلحتها، وأنها لذلك تُجَيِّر لخدمتها الإعلام العالميّ عبر خلق معادلة " بالأبيض والأسود " تحدّد هي فيها " الجيّدين والأشرار "، وتلزم الجميع بقبولها عنوة، تمامًا كما في أيام وأفلام الغرب المتوحّش، فهي الجيّدة أما الأشرار وفق التعريف الأمريكيّ، فمصيرهم الويل والثبور وعظائم الأُمور.
هذا المقال وكل المقالات التي تنشر في موقع بانيت هي على مسؤولية كاتبيها ولا تمثل بالضرورة راي التحرير في موقع بانيت .
يمكنكم ارسال مقالاتكم مع صورة شخصية لنشرها الى العنوان: