logo

أزمة أوكرانيا: نحو عالم متعدّد الأقطاب عسكريًّا واقتصاديًّا

21-07-2021 06:17:10 اخر تحديث: 18-10-2022 08:35:00

بغض النظر عمّا ستحمله الأيام القادمة على صعيد الأزمة الأوكرانيّة من تعرّجات وتحوّلات وتطوّرات سياسيّة وعسكريّة وعقوبات اقتصاديّة تعتبرها واشنطن والغرب

 
المحامي زكي كمال

بديلًا عن التدخّل العسكريّ، وهي رسالة كان من الحريّ بالرئيس الأوكراني فلاديمير زلينسكي أن يفهم مغزاها ـ وأن يدرك أنّ الغرب وأمريكا يقولون له إنّهم يتركون له ساحة القتال بما فيها من خسائر بشريّة، وأنّهم ليسوا على استعداد لإراقة قطرة دم واحدة لأحد جنودهم، حتى لو كان الثمن سقوط أوكرانيا وخضوعها للقوة العسكريّة الروسية ـ  أو غرقها في حرب استنزاف طويلة لا تبقي ولا تذر، ودون انتظار نتائج الأزمة الحاليّة، والتي ستتراوح  بين الحلّ الدبلوماسيّ ووقف الحرب، أو استمرارها وحسمها سريعًا من قبل الجيش الروسيّ، أو تحوّلها إلى "حرب استنزاف" تُلْحقُ  بالجيش الروسيّ خسائر فادحة تتآكل معها شعبيّة الرئيس فلاديمير بوتين، فإنّ ما حدث خلال هذه الأزمة يستدعي البحث المعمّق، ولا يتحمّل الأحكام السطحيّة والسريعة التي تعتبر الأمر خلافًا جديدًا تختلف المواقف حول بدايته، وهل كانت عام 2014 عند احتلال روسيا شبه جزيرة القرم، أو 2022 مع الاجتياح الأخير، والذي أذكت نيرانه محاولات أوكرانيا الانضمام إلى حلف شمال الأطلسيّ.
الأزمة الأخيرة، يقينًا، ليست وليدة اللحظة، بل إنّها  تحمل في طياتها رسالة روسيةً واضحة تتعلّق بكونها الدولة التي لم تعد ضعيفة ومفكّكة بعد انهيار الاتحاد السوفييتيّ، كما أنّها ليست روسيا يلتسين وحتى ليست روسيا بوتين في بداية عهده والتي حاولت، ليس محبّة بالغرب والسطوة الأمريكيّة عليه، بل لغاية في نفس بوتين، الانضمام إلى حلف الأطلسيّ كما تدعي قيادات دول منظمّة جامعة للدول الأوروبيّة. وهي  رسالة تقول إنّ روسيا لها ما يُقال وما تقول بما يتعلّق بنفوذ هذه الدول (دول الناتو)، وعلى مصالحها المتشعّبة في كافّة النواحي، خاصّة على المستوى الاستراتيجيّ المتعلّق بالسباق على السيطرة حول العالم، وبالتحديد الدول القريبة من روسيا كدول البلطيق وغيرها، فكم بالحريّ إذا كان الأمر يتعلّق  بأوكرانيا التي يعني ضمّها إلى الأطلسيّ ضرب روسيا في الصميم ونصب الأسلحة ووسائل الاستخبارات والتجسّس على عتبة بيت بوتين، بينما يعني إبقاؤها خارج حلف الناتو خسارة أمريكا والدول الأوروبيّة نقطة الارتكاز الأكثر تأثيرًا على روسيا، أي أوكرانيا.

" مجموعة تكتيكات "
انضمام أوكرانيا إلى حلف الأطلسيّ ليس السبب المباشر للأزمة الحاليّة، ومن الواضح لكلّ من في رأسه عينان أنّه ليس السبب الوحيد، بل إنّه القشّة الأطلسيّة الأمريكيّة الغربيّة التي قصمت ظهر بعير بوتين قيصر روسيا الحديثة، أي أنّه " الرمانة " وفق المثل العربيّ المعروف القائل " مش رمانة.. قلوب مليانة "، فبالنسبة لروسيا يواصل حلف الأطلسيّ، ورغم نهاية الحرب الباردة  توسيع صفوفه والتحرّش بها، إذ يعزّز ساحات عمله ويندفع نحو توسيع عضويّته بضمّ دول أوروبا الشرقيّة، إذ ضمّ أحد عشر بلدًا من بلدان أوروبا الشرقيّة، بما فيها بولندا ودول البلطيق الثلاث: لاتفيا وإستونيا وليتوانيا، مستغلًّا ليس فقط تفكّك روسيا بعد عهد غورباتشوف، بل ضعفها بعد ذلك وارتباكها ودخولها في حالة انعدام وزن خلال فترة حكم بوريس يلتسين، ما يجعلها عمليًّا أفضل تطبيق لسياسة الولايات المتحدة إزاء الأطلسيّ ومستقبله كما صاغها الرئيس السابق جورج بوش الابن، والتي تنطلق من تصوّر مبنيّ على ضرورة الوجود العسكريّ المباشر في عدد من الأقاليم حول العالم خاصّة الشرق الأوسط وآسيا الوسطى ومحيط البحر الأسود بهدف السيطرة على التغيّرات الإقليميّة السياسيّة والاقتصاديّة والتحكّم بالخريطة السياسيّة في هذه الدول. وهو ما أرادت أمريكا تحقيقه عبر مجموعة تكتيكات وفعاليّات بهدف وضع دول الحلف أمام الأمر الواقع مثل برنامج " الشراكة من أجل السلام "، الذي ينطوي على تدريبات عسكريّة مشتركة ضد الإرهاب، والذي يعتبر شكلًا من أشكال توسيع الحلف دون استشارة أعضائه، ووضع نظام إنذار مبكّر للحلف للكشف المبكّر عن الأزمات، ليتيح إدارة هذه الأزمات دون الحاجة إلى التدخّل، أو قبل التدخّل العسكريّ، والحوار المتوسّطيّ حول المبادرة من أجل مكافحة الإرهاب وانتشار أسلحة الدمار الشامل مع دول المتوسّط ( مصر والمغرب )، ونشر منصّات للصواريخ المضادة للصواريخ وملحقاتها من الرادارات ونظم الحماية والرقابة في عدد من دول الحلف ( بولندا، والتشيك، وتركيا ) كجزء من مشروع أوسع مدى لإقامة درع صاروخيّ عالميّ متكامل في أوروبا، ومرّة أُخرى دون التشاور مع دول الحلف، أي أنّ أمريكا ما بعد بوش الابن، جعلت هدف توسيع الحلف يحتلّ موقعًا مركزيًّا في سياستها وجرّت دوله عنوة إلى ذلك، وهو ما يشكّل خرقًا واضحًا لما تمّ الاتفاق عليه مع نهاية الحرب الباردة وتحديدًا قمّة مالطا بين الرئيسين بوش الأب وميخائيل غورباتشوف 1989، وانهيار الاتحاد السوفييتيّ (1991) والتي تمخّضت عن تفاهمات سياسيّة دعت إلى تصفية بؤر التوتّر والحروب وإقرار السلم العالميّ، فقد سادت، لفترة وجيزة، أدبيّات البيروسترويكا التي بشّر بها آخر رئيس سوفييتيّ، ميخائيل غورباتشوف، والتي تدعو إلى إقامة نظام دوليّ يعتمد " توازن المصالح " قاعدةً له، ويعطي الأولويّة للتعاون الدوليّ، ما يعني تراجع العامل العسكريّ وإعطاء الصدارة في العلاقات الدوليّة للعاملين، السياسيّ والاقتصاديّ، الأمر الذي خلق مناخًا برزت معه  دعوات أوروبيّة إلى حلّ حلف الناتو بصيغته الجزئيّة، لأنّه " أصبح بسبب نهاية الحرب الباردة وحلّ حلف وارسو وانهيار الاتحاد السوفييتيّ، بلا معنى أو هدف"، وإلى قبول دعوة غورباتشوف إلى إقامة أوروبا واحدة، حتى أنّ بوتين عندما وصل إلى السلطة تحدّث عن احتمال انضمام روسيا ذاتها إلى الحلف، قابله ردّ من هنري كيسنجر وزير خارجيّة أمريكا السابق، وأَحد واضعي سياستها الخارجيّة جاء فيه " أنّ روسيا ما زالت كبيرة لذا فهي خطيرة "، وحلّ النزاعات الإقليميّة بالطرق السلميّة، وهنا تجدر الإشارة إلى أن أمريكا ومنذ بداية تسعينات القرن الماضي قوّضت تدريجيًّا مبدأ توازن المصالح، وعدم اللجوء إلى القوة العسكريّة، وجعلت حلف الناتو وتوسيعه، مصلحة أمريكيّة. لذا تبنّت سياسات مراوغة، ودفعت باتجاه تأزيم النزاعات، كما حدث في يوغسلافيا إذ كشفت الهيرالد تريبيون (16/5/1992) ما قاله جيمس بيكر، وزير الخارجيّة الأمريكيّة عام 1990 للرئيس اليوغسلافيّ ميلوسيفيتش من أنّ واشنطن تقف مع يوغسلافيا ( قائدة عدم الانحياز بقيادة جوزيف تيتو) موحّدة أرضًا وشعبًا،  وهذا شجّع الأخير على خوض حرب أهليّة دمّرت بلاده وشعبه وقادته إلى محكمة جرائم الحرب.

" هشاشة الناتو "
وصول فلاديمير بوتين للرئاسة ( عام 2000) تزامن تقريبًا مع مجيء جورج بوش الابن، ومقابل سياسة أمريكا التي أرادت مواصلة استغلال ضعف روسيا وتوسيع حلف الأطلسيّ فعلًا، وإن لم يكن عددًا، سعى بوتين لمواجهة الانهيار الكبير في مكانة روسيا الدوليّة، بعد الحرب الباردة، عبر التركيز على الاقتصاد الداخليّ ومحاولة ملء المكانة المتبقيّة لروسيا كدولة عظمى، دون السعي إلى مواجهات مع الولايات المتحدة، أو تجنّب المواجهات الكبيرة، أو حتى بالتشاور مع واشنطن، التي اتضح أنها لم تكن مهتمّة كثيرًا بإجراء المشاورات، فوجدت روسيا تعويضًا عن مكانتها الضائعة بالعرض الذي قدمته لها فرنسا وألمانيا بالوقوف ضد الولايات المتحدة في مسألة العراق، وذلك بعد ستة أشهر من انضمام ثلاث جمهوريات سوفييتية سابقة للناتو، وجدها بوتين فرصة ليثبت لشعبه هشاشة الناتو بالوقوف جنبًا إلى جنب مع نظيريه الفرنسيّ والألمانيّ، وهو الموقف الذي اعتبر خروجًا عن وصاية السياسة الأمريكيّة، وهو ما واصله بوتين، بل عزّزه مع  استمرار فترات رئاسته وخاصة رئاسته الثالثة (عام (2012 ) مدفوعًا بنزعة قوميّة روسيّة لإعادة الاعتبار لروسيا والثأر من مرحلة الضعف والاحتقار الغربيّ من خلال استراتيجيّة هجوميّة بهدف فرض هيبتها ودورها الإقليميّ والدوليّ، وتعزيز الوجود العسكريّ الروسيّ في الساحة السوفييتيّة سابقًا من خلال قواعد عسكريّة في طاجيكستان وقرغيزستان وروسيا البيضاء وشرق أوكرانيا وأبخازيا وأوستيا الجنوبيّة وأرمينيا.
كانت مواقف روسيا هذه ردًّا على سياسات أمريكا، والتي وصفها هنري كيسينجر وزير الخارجيّة الأمريكيّ السابق في لقاء مع وكالة " بلومبيرغ " ، بتاريخ 9.10.2020  قائلًا إنّ هناك مشكلة لدى واشنطن، وهي ترسخ قناعتها أنّها المهيمنة على العالم وحدها، وهي قناعة يجب تغييرها بحسب قوله. وأنّ هذا الاعتقاد قد يؤدّي إلى حرب عالميّة مع الصين أو غيرها، وهو اعتقاد ترسّخ وتعاظم في عهد الرئيس دونالد ترامب وقبله باراك أوباما، وحتى بيل كلينتون  الذي حاول وأراد محاصرة روسيا عبر توسيع حلف الأطلسيّ إلى أوروبا الشرقيّة، واحتوائها عبر المساعدات الماليّة وصولا إلى التقارب معها على سبيل التوصّل إلى شراكة استراتيجيّة بين القويّ والضعيف وبين الثري والمفلس، رافقتها تصريحات من الوزيرة كوندوليسا رايس حول " التهديد الروسي " قالت فيها إنّ روسيا تشكّل تهديدًا للغرب عامّة ولحلفاء أمريكا الأوروبيّين خاصّةً، ووزير الخارجية  الأسبق كولين باول، الذي قال إنّه لا ينبغي أن تكون المواقف من  روسيا مختلفة عن تلك التي اعتمدتها الولايات المتحدة تجاه الاتحاد السوفييتيّ القديم في أواخر الثمانينات.
إزاء ذلك أدرك الكرملين مدى خطورة خطة الحلف محاصرة روسيا بقواعد عسكريّة للحلف لتغيير الوضع  السياسيّ والقوميّ فيها وفي الدول المحيطة بها، خاصّة مواصلة واشنطن العمل على نشر الدروع الصاروخيّة في دول شرق أوروبا، فردّ على ذلك بتعديل مواقفه العسكريّة، ورفضه توسّع الحلف في اتجاه الحدود الروسيّة، وزيادة وجود الغرب العسكريّ في أوروبا الشرقيّة، مؤكّدًا حقّ روسيا في استخدام أسلحتها النوويّة، والتلويح بالانسحاب من معاهدة عام 1987 حول الصواريخ النوويّة المتوسّطة، ورفض انضمام أوكرانيا إلى الحلف، كان النذير الأول للمواجهة سببها  تحرّك الغرب وأمريكا  المدروس بين الدبلوماسيّة والعسكريّة من جهة، وتمسّك الكرملين بما يسميه روسيا الجديدة، والتي تضمّ أراضي من دول الاتحاد السوفييتيّ السابق يقطنها روس، أو ناطقون بالروسيّة من جهة أخرى.

" اختلاف المواقف "
بغض النظر عن اختلاف المواقف والردود على السؤال الهامّ ما إذا كانت أمريكا هي البادئة في استفزاز روسيا بإصرارها على إدخال أوكرانيا في حلف الناتو، رغم ما يشكّله من تهديد حقيقيّ على روسيا، أو كون روسيا بوتين استغلت ذلك كعذر ومبرّر لتنفيذ هجوم كان مخطّطًا مسبقًا، إلا أنه يجب القول إنّ اختلاف هذه المواقف يتجلّى أيضًا في اختلاف الاستنتاجات فمؤيّدو روسيا بوتين يؤكّدون أنّ إصرار واشنطن على استخدام القوّة العسكريّة ومعها دول الغرب، سواء كان ذلك في العراق أو أفغانستان أو تأييدها للحرب على اليمن وتهديد إيران بعمل عسكريّ لمحاولتها حيازة أسلحة نوويّة، تشكّل خطرًا على أمن إسرائيل ( تملك أسلحة نوويّة وفقًا لمصادر إعلاميّة أجنبيّة ) حليفة واشنطن، وربما أمن أمريكا كما تدعي، كان القاعدة التي منحت الشرعيّة لقرار الرئيس الروسيّ بوتين باجتياح أوكرانيا، بينما يؤكّد معارضو روسيا أنّ اجتياحه أوكرانيا سيمنح شرعيّة مستقبليّة لحروب التدخّل الأمريكيّة، وسيعيد مبدأ استخدام القوّة إلى العلاقات الدوليّة كمعادلة تحكّم علاقة القوى العالميّة، ما  سيقوّض نضال الشعوب ضد الحروب وأساليب العسكرة الأمريكيّة.
أزمة أوكرانيا وما سبقها وما سيليها وبغض النظر عن نتائجها، يشير إلى انتهاء عهد القوة العظمى الوحيدة أمريكا منذ تفكّك الاتحاد السوفييتيّ، وهو عهد قال عنه كثيرون إنّ أمريكا داست فيه القانون الدوليّ وقرارات مجلس الأمن والأمم المتحدة ( اجتاحت العراق قبل اتخاذ  قرار هناك )، ومحكمة الجنايات الدوليّة ومنظّمات حقوق الإنسان، ربّما انطلاقًا أو استغلالًا لكونها دولة عظمى بقوة ترسانتها العسكريّة، والأمنيّة والسايبرانيّة، ولم تأبه بالقانون الدوليّ وحقوق الإنسان، إلا لتوظيفها لتنفيذ سياساتها في التدخّل في شتّى الدول، وتؤكّد  أنّنا دخلنا مرحلة تقود إلى عالم متعدّد القطبيّة يحدّ من سيطرة أمريكا، وهذا فيه من الصحّة الكثير، لكنّه يثير أسئلة حول ما ستكون عليه قواعد اللعبة إذا كان القطبان الكبيران، أو الأقطاب الكبيرة يتعاملون بعقليّة فرض القوة، ما يجعل الشعوب في الدول الضعيفة ضحيّة لهذا التنافس، مع الإشارة إلى أنّ مواقف وتصرفات بوتين الداعية إلى تعزيز النزعات القوميّة،  تجد لها القاسم المشترك مع مواقف مجموعة من قادة العالم الآخرين، بمن فيهم الرئيس الصينيّ الحالي شي جين بينغ وناريندرا مودي في الهند والرئيس المجريّ فيكتور أوربان، والرئيس الأمريكيّ السابق دونالد ترامب، وربما حكومات إسرائيل المتعاقبة، الذين يقدّسون " التفكير الحضاريّ " الضيّق وليس القانون الدوليّ. وبذلك فإنهم يحدّدون حدود أممهم في إطار حضاريّ بدلًا من  إطار قانونيّ معترّف به دوليًّا، وليس ذلك فقط، بل يعملون على إضعاف المؤسّسات الدولية كما فعل ترامب في وقف تمويله للأمم المتحدة، والانسحاب من منظّمة الصحّة الدوليّة ومقاطعة محكمة الجنايات الدوليّة وغيرها.
أزمة أوكرانيا تثير أسئلة كثيرة على العالم بما فيه إسرائيل ومنها: هل تشكّل العقوبات الاقتصاديّة في أيامنا هذه الردّ على العمل العسكريّ في حالة روسيا اليوم، أو السعي إلى القوّة العسكريّة والنوويّة كما تفعل إيران، وهل أخطأ العالم وخاصّة أمريكا التي تعيش منذ عقدين ونيف، هاجس وهوس القوّة العظمى الوحيدة التي " تحدّد نبض العالم وسياساته "، في قراءة الخريطة السياسيّة والأحداث التي تخلّلها اجتياح شبه جزيرة القرم عام 2014 واحتلالها من روسيا ومحاولة ضمّ أوكرانيا إلى حلف الأطلسيّ بإصرار أمريكيّ وتحفّظ أوروبيّ، كما فشل في قراءة معاني حشد روسيا لقواتها العسكريّة على حدود أوكرانيا، ولم يفهم أنّها حشود غير قابلة للتراجع دون إيجاد مخرج يرضي روسيا. واهتم بالنوايا السياسيّة، وليس بالقدرات العسكريّة ( بعكس ما قاله الجنرال أهارون يريف رئيس شعبة الاستخبارات العسكريّة في الجيش الإسرائيليّ عام 1973: " إزاء تركيز وحشد القوات العسكريّة علينا التركيز على القدرات وليس النوايا " )، أي ربما كان على الرئيس الأوكرانيّ والغرب اتخاذ خطوات ما، وربما إعلان حالة الطوارئ في أوكرانيا مع بداية حشد القوات الروسيّة، وليس انتظار  اليوم الثاني للحرب، وكأنّها لن تحدث أبدًا، كما أنّ الأزمة الحاليّة تلزم إسرائيل بالردّ عن أسئلة حول مواقفها، وهل هي مواقف مبدئيّة تجعل إسرائيل - كما قال البعض- في الجانب الصحيح من التاريخ، أي إلى جانب الضحيّة والمستضعفين، وضد احتلال أراضي الغير بالقوة ( وهي التي تحتل الضفة الغربيّة منذ1967 ) وضدّ الاجتياح الروسيّ وقصف العاصمة الأوكرانيّة - علمًا أنّها المرة الرابعة التي يتمّ فيها منذ نهاية الحرب العالميّة الثانية قصف أو اجتياح عاصمة دولة ما، هي بغداد العاصمة العراقيّة التي احتلتها قوات التحالف الدوليّ وبيروت عاصمة لبنان التي قصفتها إسرائيل وسيطرت عمليًّا على جزء كبير منها، وصنعاء عاصمة اليمن التي قصفتها قوات التحالف العربيّ بدعم أمريكيّ وكييف حاليًّا - أو أنها مواقف تقودها المصلحة وتعتمد " الرقص بين نقاط المطر "، وعدم اتخاذ الموقف الصريح حفاظًا على مصالحها مع روسيا وخاصّة حريّة قيام إسرائيل بعمليّات عسكريّة في سوريا ضد التواجد الإيرانيّ وحركة " حزب الله "، مع الإشارة إلى أنّ الحرب الحاليّة وفقًا لمراقبين عسكريّين هي ليست بين روسيا وأوكرانيا، بل إنها حرب بين روسيا والصين وإيران اللتين تدعمانها، وبين بقية أو أكثر من نصف دول العالم التي تشجب وتستنكر وتفرض العقوبات الاقتصاديّة والرياضيّة والسياحيّة على روسيا.
وفوق كلّ ذلك بل وقبل كلّ ذلك، بالنسبة لإسرائيل يبقى السؤال حول ما إذا كان النزاع الحاليّ سيسرّع توقيع اتفاق نوويّ جديد مع طهران التي يدعمها بوتين، أم أنه سيؤجّله إلى أجل غير مسمّى.
كلّ هذه الأسئلة وغيرها تنتظر الإجابة، وليس ذلك فحسب، بل إنّ مجرد طرحها على خلفيّة أول اجتياح تنفّذه دولة أوروبيّة بحقّ جارتها، أو دولة بعيدة عنها، يعني أنّ العالم يدخل مرحلة جديدة اختفت عن الساحة فيها نهائيًّا المؤسّسات والأُطر الدوليّة كالأمم المتحدة، وتراجعت نزعات التدخل العسكريّ الأمريكيّ والأوروبيّ، وعادت فيه حالة تعدّد القوى العظمى والأقطاب، وتمّ إصدار شهادة الوفاة للمطالب بالتوافق الدوليّ ونشر السلام العالميّ، ونهاية التفسير السياسيّ للمصطلح التكنولوجّي بأنّ العالم قرية صغيرة يسودها السلام، ليتضح أنّ المنظومة الدوليّة ومصالحها المختلفة والمتناقضة من جهة، والأمن والاستقرار من جهة أخرى هما خطّان متوازيان لا يلتقيان.

هذا المقال وكل المقالات التي تنشر في موقع بانيت هي على مسؤولية كاتبيها ولا تمثل بالضرورة راي التحرير في موقع بانيت .
يمكنكم ارسال مقالاتكم مع صورة شخصية لنشرها الى العنوان:
[email protected].