logo

مقال | السايبر: ساحة حرب الدول الكبرى

بقلم: المحامي زكي كمال
21-07-2021 06:17:10 اخر تحديث: 18-10-2022 08:25:05

في وضع يبدو غريبًا وغير مسبوقٍ ربّما، تجد الولايات المتحدة نفسها في الأسبوعين الأخيرين، وفي حالة يعتبرها الكثيرون للوهلة الأولى غير معتادة تشكِّل

 
المحامي زكي كمال

 تناقضًا بين واقع كان سائدًا في الولايات المتحدة طيلة العقود الثلاثة أو الأربعة الأخيرة، وبين واقع جديد يمكن وصفه بأنّه استفاقة من نشوة القوة العسكريّة واستخلاص للعبر من الحروب التي خاضتها أمريكا، وقد كانت كلّها دون استثناء حروبًا اختياريّة، تبرّعت الولايات المتحدة طوعًا لخوضها وتحديدًا في العراق وأفغانستان وسوريا وغيرها.
ش~وهذه المرة يتعلّق الأمر بمواجهة أزمة في منطقة بعيدة عنها آلاف الكيلومترات  تدور رحاها بين روسيا وأوكرانيا، فها هي الولايات المتحدة، وهي الدولة التي كانت شخصيّتها وسياساتها أفضل انعكاس  لشخصيّة البطل، أو الماتشو الأمريكيّ الذي يأخذ حقّه بيديه، ويفرض الحقائق على أرض الواقع، دون أن يلتزم كثيرًا بالقوانين والأعراف، بل يستخدم هذا البطل، قوّة السلاح دون تردّد ودون انتظار أو تريُّث أو رحمة أو شفقة، كما حصل في الفيلم  الوثائقيّ  المعروف " وايلد وايلد كونتري " والذي تدور أحداثه حول خلاف على قطعة أرض بين مجموعتين. حاولت الأولى عام 1982 فرض الواقع بالقوّة وبسط نفوذها في مكان ليس لها (ما تفعله روسيا في أوكرانيا والسيطرة على أجزائها الشرقيّة ذات الأغلبيّة الروسيّة )، ويصل الأمر إلى محاولات للتهدئة والتسوية الهادئة التي  لم تنجح، ليقول بعدها المدعي العام في المنطقة للأغلبيّة بأنّ عليهم أنّ يتصلوا به إذا تصاعدت الأمور ( كما تفعل أمريكا من إعلان دعمها لأوكرانيا إذا ما تعرّضت لهجوم ) فتفهم الأغلبيّة الرسالة، وتقوم عام 1983 بتفجير فندق أقام فيه أفراد الأقلية الذين لم ينتهكوا الدستور الأمريكيّ، ولم يشكّلوا خطرًا على الأمن الوطنيّ، أي اللجوء إلى حلّ عسكريّ. وهو ما تغذّيه أمريكا في الأزمة الحاليّة في أوكرانيا عبر إمداد أوكرانيا بالسلاح دون حدود، باختلاف واحد بسيط وأساسيّ في هذه الحالة ملخصه أنّ أمريكا ليست الممثّل الرئيسيّ، وليست اللاعب الوحيد، أو أنّ الطرف الذي يقابلها، وهو في نظر الأمريكيّين الشخص السيّء ليس ضعيفًا، ناهيك عن أنّه يجيد استخدام الأوراق التي بيديه، ولا يكشف خططه مسبقًا بعكس ما حصل في حروب أمريكا في العراق وأفغانستان وغيرها.

" حنكة ودهاء "
ليس ذلك فحسب، بل إنّ اللاعب الخصم لأمريكا يملك من الحنكة والدهاء الكثير ومن العتاد والسلاح الكثير، منه ما يفوق جودة ما تملكه أمريكا أو يضاهيه جودة وعددًا، كما يملك من الخطط ما يربك حسابات أمريكا، ويردّ لها الصاع صاعين، كما في لعبة الشطرنج التي احتلّت روسيا، وما زالت مرتبة الصدارة العالميّة فيها، فروسيا بوتين تحشد قوّاتها على الحدود مع أوكرانيا جارتها، إذ تتهم الولايات المتحدة ودول غربيّة وأوكرانيا روسيا بنشر نحو 100 ألف جنديّ قرب حدود جارتها من الغرب، وأعداد كبيرة من الآليّات ومنظومات صاروخيّة منها " إس 400 "، لكنّها من جهة أخرى تؤكّد أنّها لا تريد الحرب، وتواصل تأكيد ذلك عبر مفاوضات واتصالات مع دول حلف الناتو ووزير خارجيّة أمريكا أنتوني بلينكن، إذ قالت وكيلة وزارة الخارجيّة الأمريكيّة، فيكتوريا نولاند إنّ بلادها تلقّت إشارات بأنّ روسيا مهتمّة ببحث المقترحات المقدمّة من الولايات المتحدة والناتو لحلّ الأزمة، وبالمقابل تجد  الأزمة الإدارة الأمريكيّة برئاسة جو بايدن، في حالة من تدهور الثقة الجماهيريّة به، وعشيّة انتخابات منتصف الفترة الرئاسيّة، والأنكى من ذلك بعد انسحاب سريع من أفغانستان خلّف وراءه أنصارًا ومتعاونين يلاقون مصيرهم ومواطنين عادييّن توسّموا في التواجد الأمريكيّ خيرًا فكانت الصفعة لهم قاسية، بل ربّما قاتلة، في تجسيد فظّ لشعار استخدمه دونالد ترامب  وهو " أميركا أولًا"  انعكس في سحب القوات الأمريكيّة من مناطق النزاع والخلاف في العالم والكفّ عن " لعب دور الماتشو" المدافع عن الضعيف والمطالب بالحقّ عنوة، ولو كان العالم كلّه في الكفّة المقابلة، أو الكف وبصريح العبارة عن " خوض الحروب من أجل عيون الآخرين ومصالحهم "، وفوق كلّ ذلك اتضح لأمريكا أنّها تقف اليوم في مواجهة خصم ومنافس لا يمكن لأحد أن يتنبّأ بما يريد، بيد أنّه من الواضح أنّه لا يخشى المواجهة العسكريّة، بل ربّما يسعى إليها واثقًا من أنّ الشعب الروسيّ يريد استعادة أيام عزّه أي أيام الاتحاد السوفييتيّ كقوّة موازية ورادعة لأمريكا، وربما إعادة  أمجاد الإمبراطوريّة الروسيّة، إضافة الى ثقته التامّة بأنّ إدارة الرئيس الأميركيّ جو بايدن تستبعد إرسال قوات لأوكرانيا في حال الغزو الروسيّ، رغم أنّها وضعت آلاف الجنود في حالة تأهّب تحسّبًا لإرسالهم إلى شرقي أوروبا في حال قام الناتو بتفعيل قوّة التدخّل السريع التابعة له.

" حالة غير معهودة "
عشية أزمة أوكرانيا تجد الولايات المتحدة نفسها في حالة لم تعهدها من قبل  قوامها الحقيقة والساطعة أنّ استخدام القوّة العسكريّة لمواجهة التهديدات، التي عادةً ما كانت واشنطن تسارع إلى وصفها بأنّها تهديد للأمن الدوليّ، أو حتى الأمن القوميّ الأمريكيّ، بات يتصف بالصعوبة والخطورة المتزايدة، وأنّ أكثر الخيارات المتاحة لأمريكا لإرغام الدول على تحقيق ما تريده، هو العقوبات الماليّة، ودعم " المعارضة السياسيّة اللا عنفيّة " في أنظمة الحكم المعادية، والعمليّات الهجوميّة الإلكترونيّة. كما هو الحال مع إيران التي حاولت أميركا ترامب إرغامها على التراجع عن مشروعها النوويّ عبر عقوبات اقتصاديّة دون اللجوء إلى الخيار العسكريّ رغم التلويح المبطّن به، أو الحال مع الصين التي فرضت عليها إدارة ترامب عقوبات اقتصاديّة كبيرة وحاسمة، في توجّه جديد جاء بعد أن أمضت الولايات المتحدة العقدين السابقين في الحروب، وها هي تواجه اليوم ضغطًا لتقليص الاعتماد على القوّة لحماية مصالحها، والنهوض بمسئوليّاتها، والتصدي للتهديدات، والمحافظة على النظام العالميّ، كما تواجه ضغطًا باتجاه تخفيف العبء العسكريّ المترتّب على ذلك، وهو ما يلزمها بانتهاج طرق جديدة للمواجهة العالميّة ، ملخصها الاستعاضة بالحرب السيبرانيّة والاقتصاديّة والإعلاميّة عن العسكريّة.
ويبدو أن أميركا استعدّت لذلك، وتهيّأت للعهد الجديد الذي تسود فيه " قوّة الإرغام " على " قوّة العسكر والحرب والألغام "، ويمكن فيه هزم العدو دون مواجهته، فقرّرت أنّ الهواجس الشائعة بخصوص شنّ الحرب التقليديّة وكلفتها المتعاظمة والأخطار المرافقة لها، كلّها عوامل تزيد من أهميّة تطوير قدرة الولايات المتحدة على الإرغام، والتزود بخيارات إرغاميّة منها عولمة التجارة والاستثمار والموارد الماليّة والسيطرة على مجال الطاقة والمعلومات لا سيما في مواجهة أعداء يحاولون فعل الأمر ذاته، في إشارة واضحة إلى روسيا  التي تزوّد أوروبا بثلث احتياجاتها من الغاز، وتملك مخزونًا كبيرًا من النفط جعلها مع السعوديّة ترفض طلب أميركا خفض أسعاره ما دعا إدارة بايدن إلى ضخ 50 مليون برميل من احتياطيّ النفط الأميركيّ إلى السوق المحليّ لمواجهة موقف روسيا هذا، إضافة إلى الصين وربّما إيران وكوريا الشماليّة، وهو ما جاء في دراسة من العام 2016 بعنوان :" القدرة على الإرغام - مواجهة الأعداء دون حرب " أعدّها الباحثان ديفيد. س. غومبرت وهانس بينندك، بطلب خاصّ من الجيش الأمريكي، جاءت فيها الإشارة الواضحة إلى ضرورة استخدام وسائل قتاليّة جديدة ومبتكرة في مواجهة الأزمات والأعداء منها العقوبات الماليّة والعمليّات الهجوميّة الإلكترونيّة ( حرب السايبر ) التي يمكنها التسبّب بأذىً واضح للاقتصاد لدى العدو، ومنعه من الوصول إلى نظام الشبكة المصرفيّة العالميّة، وهو هجوم يمكن بسهولة بل بكبسة زر ضبط معياره وربما وقفه، كما حدث مع منع البنك المركزيّ في إيران من استخدام منظومة " سويفت " العالميّة ما أدّى إلى انهيار العملة الإيرانيّة.

" عهد جديد من الحروب "
أزمة أوكرانيا وردود أمريكا عليها، وما سبقها من استخدام أمريكيّ للعقوبات الاقتصاديّة بدل الإسراع إلى القوة العسكريّة ضد ايران، تؤكّد أنّ العالم المتحضّر سياسيًّا وصناعيًّا وعسكريًّا، يسير بخطى حثيثة عمليًّا وإدراكيًّا نحو عهد جديد من الحروب، يشكل الإنترنت وحزم بياناته العصب الرئيسيّ لهذه الحرب، بينما تعتبر فيروسات البرمجيّات من أهمّ أدواتها، وهي التي تهاجم الأجهزة الإلكترونيّة وشبكات الإنترنت وأنظمة المعلومات، بهدف التجسّس أو تعطيل أنظمة التحكّم والمتابعة والإدارة فيها، خاصّة وأنّ الهجمات أو الحروب الإلكترونيّة تعتبر مقارنة بالحروب التقليديّة قليلة التكلفة، فهي لا تحتاج إلى أرتال من الدبابات والمدرعات، أو أسراب من الطائرات، أو فيالق من الجنود،  بل تحتاج بشكل رئيسيّ إلى خبراء ذوي قدرات ذهنيّة وتدريبيّة عالية، كما تعتبر سريعة التنفيذ لا تحتاج إلى كثير من الوقت، وهي واسعة النطاق يمكن نشرها في أيّ مكان وبشكل متزامن، وتعتبر تلك الحروب أو الهجمات كذلك الأكثر أمانًا من أيّ نوع آخر من الحروب أو الهجمات، إذ يقوم بها المهاجمون بشكل افتراضيّ وعن بعد، مع التأكيد على أنّه لا تقلّ خطورة الحروب الإلكترونيّة عن الحروب التقليديّة، وأنّ ازدياد لجوء الدول إليها في الآونة الأخيرة لتحقيق الأهداف السياسيّة والعسكريّة جاء لأنّها أقلّ تكلفة وأشدّ تأثيرًا، وقد يستطيع الفاعل تجنّب تحمل المسؤوليّة المباشرة عنها، ورغم أنّه من الصعب تحديد الجهة المسؤولة عن الهجمات ضمن حرب السايبر بشكل مباشر، إلا أنّ هناك جهات تبقى مشتبهًا بها ومستفيدة بشكل مباشر من تلك الهجمات، الأمر الذي قد يؤدّي بقصد أو بدون قصد إلى الوصول إلى حرب كبرى.
هنا لا بدّ من الإشارة إلى أنّ استخدام السايبر ليس جديدًا، خاصّة بكلّ ما يتعلّق بالولايات المتحدة وروسيا، إذ اتهمت الولايات المتحدة روسيا عام 2007 بمهاجمة أستونيا إلكترونيًّا، الأمر الذي تسبّب في شلّ الحركة في بنيتها التحتيّة، إذ توقّفت البنوك والمصالح الحكوميّة والملاحة والبثّ التلفزيونيّ والمواقع والخدمات الإلكترونيّة فيها لثلاثة أسابيع، وتكرّر ذلك الأمر في جورجيا في العام 2008.
كما اتُهِمَتْ روسيا عام 2016 بالتدخّل في الانتخابات الأمريكيّة، واتهمت كذلك في العام التالي بتنفيذ هجومات اإلكترونيّة على النرويج وجمهوريّة التشيك وبريطانيا، كما تعرّضت الولايات المتحدة وإسرائيل ودول أخرى في ديسمبر 2020 لهجوم سيبرانيّ استهدف مواقع حسّاسة فيها، واعتُبر الأكبر وأحدَ أكثر الهجومات السيبرانيّة تعقيدًا.
وركّز الهجوم في الأساس على الولايات المتحدة، إذ كانت 80%من المؤسّسات المستهدفة من الهجوم أميركيّة، وشكّل الهجوم فشلًا استخباريَّا في حماية الأمن القوميّ الأمريكي، بل اعتبره البعض أنّه لا يقلّ خطورة عن اعتداءات الحادي عشر من أيلول. وعلى الرغم من اتهام الولايات المتحدة لروسيا بشن الهجوم، واتهام الصين بدرجة أقلّ، وجّهت إسرائيل أيضًا أصابع الاتهام إلى إيران.
لم أورد أسماء ثلاث دول هي الصين وروسيا وإيران عبثًا، بل إنّه مقصود فهي ثلاث من أربع دول هي الصين، روسيا، إيران وكوريا الشماليّة، تشغل في نظر المخابرات الأميركيّة والعالميّة، الحصّة الأكبر ممّا يسمّى " عمليّات المنطقة الرماديّة " التي تتّخذها الدول ضدّ الولايات المتحدة ومصالحها وحلفائها وشركائها.  ويمكن تصنيف هذه الجهات من حيث الأكثر فاعليّة وخطورة نظرًا لاتساع ونوعيّة مجموعة أدوات كلّ دولة وتأثيراتها المحتملة النسبيّة على المصالح الأمريكيّة، إذ تقع الصين في المرتبة الأولى، وتعتبر الأكثر إثارة للقلق، تليها روسيا ثمّ إيران ثمّ كوريا الشماليّة، وذلك رغم أنّه من الصعب، أو قد يكون من المستحيل إثبات مصدر الهجوم بشكل مؤكّد. 

" قرارات متسرعة "
الوضع الحاليّ في أوكرانيا، في ظلّ إدارة جو بايدن الذي يملك سجلًّا واسعًا من التصريحات والقرارات المتسرّعة التي تزداد أخطارها اليوم بسبب أولئك الذين حوله من المستشارين وأعضاء الكونغرس المقرّبين، والضغط الذي يتعرّض له بايدن من الجمهوريّين الذين يتهمونه بالتنازل والمهادنة وإضعاف أميركا على الساحة الدوليّة، والحقيقة التي يدركها الجميع حول عدم استعداد الولايات المتحدة وحلف الأطلسي لأيّ تدخل عسكريّ في الأزمة، على غرار ما حدث في أزمة شبه جزيرة القرم التي ضمّتها روسيا إليها عام 2014 دون ردّ عالميّ عسكريّ، رغم ما جاء في الاتفاق من عام 1994 والمسمى " اتفاق بودابست " الذي وافقت فيه أوكرانيا بعد تفكّك الاتحاد السوفييتيّ، على التنازل عن ترسانتها النووية مقابل تعهد أميركيّ بريطانيّ روسيّ بالحفاظ على سلامة أراضيها وسيّادتها الإقليميّة، وبالتالي فإنّ روسيا تفهم أنّ اجتياحها لأوكرانيا سيقابل " بنفس الردّ ونفس الحزم "، أو انعدام الحزم العالميّ، يشير إلى أنّ الإدارة الأمريكيّة وحلف الأطلسّي يدركون محدوديّة القوّة العسكريّة، وعدم جدوى السيطرة على الأراضي، أو احتلالها وفشله في ضمان الاستقرار، وأنّ إرغام دول معيّنة على قبول وضع تعيش فيه داخلها مجموعات سكانيّة متنازعة ومتعادية، كما هو الحال في الخلاف بين الأكراد والعراق، وصولًا إلى دول ثنائيّة القوميّة. كما يمكن أن يحدث في حال ضم إسرائيل الضفة الغربيّة وغور الأردن وإجهاض حلّ الدولتين، هو أمر يجب أن تلتفت إليه دول العالم ومنها إسرائيل، وأنّه يجب الابتعاد عن التلويح بالقوة العسكريّة والحرب التقليديّة واحتلال الأراضي والشعوب، كما يحدث في منطقة الشرق الأوسط وأفريقيا وخاصّة أثيوبيا والسودان.

" المنطقة الرماديّة "
لكن، على الرغم من الحديث عن " الحرب الجديدة " في حالة أوكرانيا إلا أنّ الأزمات الدوليّة خاصّة بين الدولتين الأعظم اللتين خاضتا حربًا باردة على مدى 50 عامًا قبل تفكّك الاتحاد السوفييتيّ في عهد ميخائيل غورباتشوف، والاعتقاد الذي ساد بعدها بأنّ روسيا ( وريثة الاتحاد السوفييتيّ ) لم تعد مخيفة، تحمل في طيّاتها دائمًا بذور المفاجآت، أو ما يسمّى عسكريا " سوء التقدير" الذي من شأنه أن يجعل الأمور تخرج عن السيطرة، وهذا ما كاد يحدث في الخامس والعشرين من كانون الثاني عام 1995، إذ رصدت الرادارات الروسيّة صاروخًا تمّ تشخيصه بالخطأ على أنّه صاروخ أطلقته غواصّة نوويّة أمريكيّة تبحر قبالة الشواطئ النرويجيّة، ما استدعى تفعيل الردّ العسكريّ التلقائيّ الذي كان قائمًا في عرف الجيش الروسيّ إبّان عهد بوريس يلتسين في حينها، الذي كان عليه خلال دقائق أن يقرّر ما إذا كان سيستخدم " الحقيبة النوويّة " التي يمكنه بكبسة زر واحدة فيها شنّ هجوم نوويّ على أمريكا ودول الأطلسيّ، لكنّه تردّد  كثيرًا ليتضح بعد ذلك أنّه صاروخ أطلقته النرويج ضمن  بحث  علميّ يحمل اسم " أضواء الشمال "، كما اتضح أنّ روسيا حصلت على تحذير وبلاغ حول إطلاقه ومعها 30 دولة أخرى.
لكنّ هناك من نسي في روسيا إبلاغ وحدة الرادارات ( وحدة الرصد الجويّ ) ما كاد يؤدّي إلى كارثة نوويّة، وهو ما يخشاه كثيرون هذه المرة، إضافة إلى تخوّفات من ضغوطات على بايدن تجعله يتخذ قرارًا بمواجهة عسكريّة محدودة، أو موضعيّة مع روسيا لأهداف سياسيّة تتعلّق بمحاولة حصد تأييد له ولحزبه عشية " انتخابات منتصف الولاية " في تكرار واقعيّ لما جاء في فيلم " ذيل الكلب " - ( Wag the Dog)‏ الذي أنتج عام 1997استنادًا إلى رواية"  بطل أمريكيّ"  للكاتب لاري بينهارت، وتدور أحداثه حول محاولة منتج هوليوودي ومدير علاقات عامّة في حملة الرئيس شنّ حرب افتراضيّة في ألبانيا للتغطية على فضيحة للرئيس الأمريكيّ قبل أربعة عشر يومًا من يوم انتخابات للرئاسة، لتعظيم صورته وزيادة التأييد له، باختلاف واحد هو أنّه في الكتاب يُحدد الرئيس الأمريكيّ المقصود وهو جورج بوش الأب، كما تُحدد الحرب المقصودة وهي عاصفة الصحراء.
" المنطقة الرماديّة " هي الساحة التي تدور فيها الأزمة الأوكرانيّة اليوم، وهي المنطقة التي وضعت الولايات المتحدة لها استراتيجيّة خاصّة لتقييم ومواجهة الأساليب البديلة التي يعتمدها من أسمتهم أميركا بـ "المنافسين"، والتي تقول إنّهم يتحدُّون قيادتها وقواعد النظام الدوليّ، ويهدفون إلى تهديد المصالح الأمريكيّة، لكن دون تصعيد مستخدمين أدوات غير  عسكريّة نظرًا للتكاليف العالية للعمليّات القتاليّة، وهنا تكمن الخطورة فعدم الوضح في السياسات والاستراتيجيّات ينذر بأخطاء غير متوقّعة وغير محسوبة ربّما لا تحمد عقباها، وهذا ما يخشاه الكثيرون. فالحدّ الفاصل بين هدوء المنطقة الرماديّة وبين قرع طبول الحرب هشّ يسهل تجاوزه، ولو دون قصد، ويبدو أنّ الحرب العالميّة القادمة هي حرب التقنيات والتكنولوجيا المعلوماتيّة والاقتصاديّة، وليست الحرب التقليديّة والسؤال ما الأخطر؟!



هذا المقال وكل المقالات التي تنشر في موقع بانيت هي على مسؤولية كاتبيها ولا تمثل بالضرورة راي التحرير في موقع بانيت .
يمكنكم ارسال مقالاتكم مع صورة شخصية لنشرها الى العنوان:
[email protected].