صورة من فالح حبيب
كل شيء يُؤخذ منه ينقص، إلا أنت أبا العبد فقد إزددت محبة وبالمقابل إزددت تواضعا.
في كل مرة ينتقل فيها شخص قريب علينا عزيز وحبيب إلى رحمة الله تعالى كأنه يقتطع قطعة منا يأخذها معه وبقعة ضوء مِن بريقنا حتى نبات تملأنا الثقوب وتداهمنا العتمة ونخبو، أما اليوم فالقطعة التي إقتُطعت منا كبيرة، كبيرة جدا العم الحاج عصام (أبا العبد).
كان لي ولغيري مدرسة مِن قريب وبعيد رايتها الإخلاص والتواضع بامتياز.
كان زاهدا بالظهور لم يُغرّر به الكبرياء، ليصبح نموذجا حيا للانتماء، ولم يفتنه منصب أو جاه، فعلّمنا بذلك أن الجاه والمجد والكرامة والشموخ والأنفة نحن مَن يصنعها بالاخلاق والتواضع ومحبة الناس لأنفسنا لا هي مَن تصنعنا وكلها لله، فعمّق درايتنا أن ملأى السنابل تنحني بتواضع وأن إحترام الشخص لنفسه هو بوليصة التأمين الوحيدة لاحترام الناس، كل الناس، ليُتوّجوك بشهادات المحبة والاعتراف بحسن خُلقك وسيرتك وسيرورتك حيا وميتا.
أبو العبد لم يقبل الزعامة بمفهومها التقليدي، بل حاول جعل الطيبة الزعيم وقدّمها على نفسه لتكون هي في المُقدمة رغم هراوات الزمن التي تلقاها والظروف العصيبة الحالكة التي عاشها. لم يكن رئيسا، بل قائدا ترفّع وآثر دائما السطر الأول ودفع بكل مَن حوله إلى الأمام وأبدا لم يضرب بالمرافق ليُعيدهم إلى الخلف، كيف لا؟! وهو بنفسه السطر الأول وعنده تنتهي السطور. زهد بالمنصب وتركه ترفّعا بخطوة لم يفهمها البعض بالمعاصرة التاريخية، ليأتي الرد عبر الزمن وتقلّب الأيام ويُتوّجه فاعلا ليس مفعولا ويُعيد اعتباره بمحبة الناس، كل الناس، فمَن له الله ولجأ إليه فمن عليه؟! ومَن كان فيه شيء لله وبينه وبين الله عمار لا بد أن تشهد له الناس والشجر والحجر، وهذا ما كان اليوم في مراسم جنازتك وأنا أستمع لكل مَن نعوك ورثوك تأبينا وألسنة كل مَن شارك ولم يشارك تهمس بطلب الرحمة لك من قريب وبعيد. لم يكن بحاجة ليُزاحم على مشهد أو صورة وهو بنفسه المشهد والصورة وبه تلخّصت العبرة والفكرة.
أما "جفا الدنيا" والبعض مِن الناس بعد المنصب، فكان لنا فيه عبرة أنه لو دامت لغيرك ما وصلت إليك، فعلّمني مِن خلالها أن الاحترام ومعاملة الناس باللين وخدمتهم لا خدمة نفسك هي مَن تدوم وتُرسّخك في الوجدان والوعي والذاكرة، وأن حب الناس الحقيقي الباقي المتجذر لا يُصنع بتصنع، بل بمحبة حقيقية نفيض بها على الناس، فكما تُحب الناس حتما سيُحبّوك، تحترمهم سيحترموك ولو بعد حين، ليتحول نموذجا لما أردده دائما: "السيرة أطول من العمر". هكذا كان وهكذا بقي العم عصام فلاحا علّمته الأرض أن مردّنا جميعا إلى الأرض فازداد تواضعا وشموخا ربانيا أصليا.
عرفتك شهما صامتا لا تعرف للغو والهرج سبيلا، بل جادا حازما، وإذا لزم الأمر، صبورا شكورا، لا تزاحم لنيل احترام وأنت الاحترام بنفسك، أكليل يُتوّج على رأس كل مَن عرفك.
أما أبو العبد الأب، فيكفي أن تنظر لأسرته وأبنائه وبناته لتُدرك حجم أثر مدرسته عليهم وطيبته وكرم أخلاقه وصلاحه فيهم.
أبا العبد لا يسعني في هذا المصاب الجلل، إلا أن أقول سلام عليك يوم ولدت وسلام عليك يوم مت وسلام عليك يوم تُبعث حيا. رحل الفلاح الذي أُحب رحل.
أتوجه بصادق المواساة وخالص العزاء لأسرتك الصغيرة الكريمة:
• للزوجة المربية الفاضلة أم العبد.
• للصديق والأخ المهندس عبد مصاروة.
لكريماتك الأخوات الماجدات:
• د. مرام مصاروة
• المربية ليندا مصاروة
• د. سعاد مصاروة
ولجميع أحفادك وأقربائك وأنسبائك ولأسرتك الكبيرة الطيبة وكل محبيك ومَن ينتمون إلى مدرستك، بهدوئك أنت وضبط أعصابك الأبدي وابتسامتك الدائمة ورباطة جأشك ومحبتك الجامعة التي كانت محط اجماع وتحولت لجواز سفرك وتجاوزتْ بك الاختلافات السياسية والاجتماعية، كنت عابر للخلافات والاختلافات.
رحم الله العم عصام العصامي الذي تجاوز بصيته وسمعته حدود الطيبة والوطن، رحم الله مدرسة التواضع وحب الناس، كل الناس، والانتماء والتفاني والاخلاص. رحمك الله العم الحاج عصام مصاروة وأسكنك فسيح جناته وجعلك في علّيين وأنزلك منزلا مباركا ومنازل الصدّيقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.
"إنا لله وإنا إليه راجعون"