كي لا تسود شريعة الغاب - بقلم: المحامي زكي كمال
لم يكن العالم بحاجة إلى الأحداث السياسيّة والعسكريّة والقضائيّة والصحيّة، في الأسابيع والأشهر الأخيرة، وإن تعدّدت مواقعها وتباعدت وتفاوتت ساحات تأثيرها من
المحامي زكي كمال
العالميّة صحيًّا إلى أوكرانيا وروسيا وأوروبا سياسيًّا وعسكريًّا وإسرائيل والولايات المتحدة قضائيًّا وسيبرانيًّا، لإعادة إثبات ما هو ثابت وتوضيح ما هو واضح، وهو إنّ الفكر السياسّي وهو من الخصائص الملازمة للإنسان، والذي تدور أحداثه في كلّ تجمّع بشريّ بغض النظر عن الجغرافيا والعرق والدين، هو حاجة أو قضيّة ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالسيطرة، باختلاف صورها العسكريّة والسياسيّة والاقتصاديّة والقضائيّة، والتي يمكن وصفها بين الدول بأنّها شريعة الغاب، التي يسمح القويّ لنفسه فيها بالتهام الضعيف عسكريًّا واقتصاديّا وحقوقيًّا وحتى عرقيًّا، فالإنسان بطبعه يبحث عن السلطة حتى في علاقاته الاجتماعيّة، فهو متغيّر متجدّد وبالتالي فإنّه هو من يكتب التاريخ دون غيره.
أمّا الإنسان السياسيّ فإنّه يبحث عن السلطة والسيطرة والغلبة في كافّة علاقاته انطلاقًا من معرفته أن ّالسلطة تتغير، وأن السيطرة تتكرّر، وأنها في زمن المواجهة والصراع داخليًّا كان أم خارجيًا، تتيح استخدام كافّة الوسائل بما فيها التحايل والخداع والسعي إلى أهداف خاصّة وشخصيّة يغلفها السياسيّون بشعارات وتبريرات جماهيريّة وعامّة، تؤكّد صدق مقولة " في زمن الحرب يصبح الصدق شيئًا ثمينًا، لا بدّ أن يُحاط بسياج من الأكاذيب "، التي أوردها أستاذ العلوم السياسيّة الأمريكيّ " جون ميرشايمر " على لسان رئيس الوزراء البريطانّي الراحل " ونستون تشرشل " في كتابه " لماذا يكذب القادة ؟ حقيقة الكذب في العلاقات الدوليّة"، وهي مقولة لا تختلف كثيرًا عمّا ذهب إليه الفيلسوف والسياسي الإيطالي "مكيافيلي" من أنّ "الغاية تبرر الوسيلة".
" تكرار الخطأ "
ورغم ذلك، يبدو أنّ الإعلام العالميّ عامّة، والإسرائيليّ خاصّة، يتعمّد تكرار خطأه التاريخي مرارًا وتكرارًا عبر النظر إلى الأمور وفق مظهرها الخارجيّ، أي بسطحيّة وغوغائيّة دون الغوص داخل تعرّجاتها ومنعطفاتها والبحث عن الصدق في زمن الحرب، أي السبب الحقيقيّ لما يحدث من تطوّرات وتوتّرات، وليست الأسباب المعلنة، وهكذا وجد العالم نفسه طيلة الأسابيع الأخيرة يراقب التحرّكات العسكريّة الروسيّة قرب الحدود الأوكرانيّة، وكأنّها مجرّد تحرّكات جاءت لأسباب واضحة ولها ما يبررها، ويحاول تحليل تحرّكات روسيا العسكريّة، وهي تحرّك أرتال الدبابات وأسراب الطائرات الروسيّة على أنّها " عمل عسكريّ فقط " يعتبره تارة دليل تأهّب للهجوم في تكرار خطير لمبدأ " شريعة الغاب "، أي استغلال روسيا قوتها العسكريّة والاقتصاديّة والسياسيّة للسيطرة على جار صغير وضعيف نسبيًّا حتى دون سببٍ أحيانًا، وتارة أخرى دليل تراجع روسيا عن محاولة حلّ الأزمة عسكريًّا وجنوحها إلى السلام مع أوكرانيا، دون أن يفهم أن السلام في عرف السياسيّين في العالم هو عبارة تتفاوت وتختلف طرق فهمها فهي بالنسبة لبعضهم " وقف مؤقّت وآنيّ لإطلاق النار " وفقًا " لقانون الغاب " الذي حكم العلاقات بين الدول الأوروبيّة حتى نهاية الحرب العالميّة الثانية، وملخّصه أنّ كلّ دولة في كلّ علاقة ثنائيّة بين دولتين تتحيّن الفرصة المناسبة للانقضاض على نظيرتها والنيل منها، وبالتالي على الدولة أن تتخذ الخطوات اللازمة لتصبح هي " المفترسة وصاحبة الغلبة " وليس الضحيّة، وهو ما يصحّ أن نَصِف به فلاديمير بوتين وعلاقته بأوكرانيا التي كان عام 2014 قد سلبها، تنفيذًا لشريعة الغاب، شبه جزيرة القرم تحت نظر العالم، وسط سعيه إلى تأسيس حالة يحاول فيها احتلال أوكرانيا، أو على الأقل، أن تعلِن مناطق تقع في الشرق الأوكرانيّ عن استقلالها لتشكّل موطئ قدم لروسيا وقاعدة أماميّة لها في أوكرانيا، عملًا بطلب الحزب الشيوعيّ الروسيّ الذي قدّم مشروع قرار يدعو بوتين إلى الاعتراف رسميًّا بـمنطقتي " لوهانسك " و" دونيتسك " الأوكرانيتين المعلنتين كجمهوريّتين من طرف واحد، وهو أمر يعتبره بعض الخبراء مقّدمة محتملة وممكنة لضمّ أجزاء من منطقتي " دونباس " و " لوهانسك " ( الأمر الذي اعتبره الغرب انسحابًا روسيًّا من اتفاقيات مينسك التي تعهدت فيها روسيا والولايات المتحدة وبريطانيا باحترام سيادة أوكرانيا الإقليميّة)، أو الوصول حينها إلى وضع من الهدوء يسود العلاقة بين الدول يعني نهاية إمكانيّات الحديث عن حرب، كما هو الحال بين أمريكا وألمانيا مثلًا ،أو بين إسرائيل ومصر حتى.
" أحلام توسعية "
بوتين، وهو أحد الخرّيجين البارزين لجهاز المخابرات السوفييتيّ الـ " كي. جي. بي "، الذي قال عنه الصحفيّ والمحلل هاوارد آموس في استعراضه لكتاب ألفته الصحفيّة الأمريكيّة كاثرين بيلتون أنّه كتب بيديه وبذهنه المتوقّد قصة سيطرة الـ " كي. جي. بي" على روسيا الحديثة، وجعله يستعيد مجدّدًا الدولة الروسيّة ويتغلّب على الغرب، يجيد استخدام الأوراق التي بين يديه، ولا يخفي ولم يخف إيمانه أنّ أوكرانيا هي جزء من روسيا، وأنّه يجب استعادة أمجاد الإمبراطوريّة الروسيّة.
لذلك، فان انضمام أوكرانيا إلى حلف شمال الأطلسيّ هو محاولة من الناتو للتدخّل فيما لا يعنيه، ومنع توسّع روسيا نحو حلم الإمبراطورية، خاصّة أنّ الأنباء التي ربطت رئيس أوكرانيا فلاديمير زيلينسكي بالرئيس الأمريكيّ السابق دونالد ترامب وصداقتهما الحميمة، ومحاولة ترامب تجنيده خدمة لأهدافه الشخصيّة، تجعله عضوًا في قائمة " أعوان أمريكا والغرب "، وهو ما يعني في عرف بوتين أنه في " خانة أعداء روسيا وأحلامها التوسعيّة والإقليميّة ".
لذلك، فإنّه، أي بوتين، يسارع إلى شريعة الغاب والتلويح بالقوة العسكريّة كلما أحاط الخطر بأهدافه في أوكرانيا تمامًا كما في سوريا، ويواصل لعبة شدّ الخيط أو الحبل إلى أقصى درجات تحمّله آملًا أن لا ينقطع.
وهو ما تنطبق عليه أقوال هاوارد آموس، في مستهلّ عرضه سابق الذكر، أنّ أفضل عبارة سمعها في وصف بوتين قالها منشقّ سوفياتيّ سابق صديق لوالده تعرّف على بوتين عن كثب وعمل معه في الـ " كي. جي. بي " خلال حكم الدولة السوفييتيّة، هي " بوتين لا يمكن أن ينحني، لكن يمكن كسره "، وهو كما يبدو الحال في أزمة أوكرانيا التي من المؤكّد، وبغض النظر عن نتائجها، ستنتهي إلى اعتبار بوتين ومعه روسيا الخاسر الأكبر، فإن اجتاح أوكرانيا سيجد نفسه شخصيًّا وهو أحد أكبر اثرياء روسيا والعالم عرضة لعقوبات اقتصاديّة دوليّة شاملة تجعله رئيسًا مُقعدًا ومنبوذًا ( لم يشارك في جلسات الجمعيّة العامة للأمم المتحدة مثلًا منذ العام 2014) يشبه حاله إلى حدّ بعيد حالة الرئيس الكوريّ الشماليّ كيم جونغ أون، كما سيجد بلاده روسيا تحت وطأة عقوبات اقتصاديّة أشد وأقسى من تلك المفروضة اليوم عليها، ومنها ما هو بسبب موقفها من النوويّ الإيرانيّ، ناهيك عن احتمال أن يؤدّي اجتياح أوكرانيا بألمانيا مثلًا، وهي الدولة الأوروبيّة الأكثر اعتدالًا في ردودها ومواقفها من الأزمة الأوكرانيّة حتى اليوم، كما أكّدت تصريحات المستشار الألمانيّ، أولاف شولتس، الذي قد وصل يوم الثلاثاء إلى موسكو قادمًا من كييف، من أجل إيجاد مخرج للأزمة الأوكرانيّة، أن تعمد ألمانيا إلى أن تردّ على ذلك باتّباع " شريعة الغاب اقتصاديًّا"، أي أن تقرّر بضغط أوروبيّ محاولة إخضاع روسيا اقتصاديًّا بالتعاون مع أمريكا وغيرها، وأن توقف علاقات اقتصاديّة متقدّمة مع روسيا، ومشاريع قيد الانتظار، أبرزها خط أنابيب الغاز الروسيّ " نورد ستريم 2 " الذي ينقل الغاز إلى المانيا وأوروبا ويعتبر الشريان الرئيسيّ للتطور الاقتصاديّ الروسيّ، وربما شريان الحياة لروسيا، أي أنّ بايدن يريد وفق " شريعة الغاب " إخضاع روسيا اقتصاديًّا، وربما قبل ذلك ووفق نفس الشريعة دفعها بقصد إلى اجتياح أوكرانيا ما يؤدي إلى إضعاف الطرفين، أوكرانيا وروسيا، ووضعهما تحت كنف أمريكا والغرب، الأولى عسكريًّا والثانية اقتصاديًّا.
" صدام عسكريّ عالميّ "
" شريعة الغاب " هي ما يحدّد موقف بوتين هذه المرة من انضمام أوكرانيا إلى حلف الأطلسيّ وتزويدها من قبل الولايات المتحدة والدول الأوروبيّة بأحدث الأسلحة ( التي لن تُسعف الجيش الأوكراني في حالة الاجتياح ) وما تبع ذلك من خطوات اعتبرها كثيرون قد تؤدّي إلى صدام عسكريّ عالميّ وربما بمشاركة روسيّة وأمريكيّة، يعيد إلى الأذهان مع اختلاف الأدوار وتبادلها، المرّة الأخيرة التي وقف العالم فيها على عتبة صدام دوليّ، أو حرب عالميّة، وذلك في أكتوبر 1962 وما يعرف باسم " أزمة الصواريخ " التي نشبت بعد أن قرّر الرئيس السوفييتيّ في حينه نيكيتا خروتشوف، نصب الصواريخ في كوبا جارة الولايات المتحدة، وهو ما رفضه الرئيس الأمريكيّ جون كنيدي، فأرسل السفن الحربيّة الأمريكيّة لمحاصرة كوبا الضعيفة تنفيذًا لشريعة الغاب، التي يخنق القوي فيها الضعيف ويحاصره ويهدّد كيانه، ليردّ عليه خروتشوف بتحريك أسطوله الحربيّ نحو الشواطئ الكوبيّة، لتستمرّ حالة التوتر 13 يومًا ( مقابل 8 سنوات من التوتر هذه المرة بين روسيا والغرب منذ احتلال شبه جزيرة القرم عام 2014)، لتنتهي الأزمة بمواصلة الحصار الأمريكيّ، وتراجع خروتشوف عن نواياه وسحب أسطوله من سواحل كوبا، بعد أن أدرك وفق منطق " شريعة الغاب " أن أمريكا هي الأقوى في هذه المرة، وهي خطوة دفع ثمنها عام 1964 أي بعد أقل من سنتين بعد الأزمة إذ تمّت تنحيته عن منصبه وإبعاده عن الكرملين واستبداله بخلفه ليونيد بريجنيف، وبوتين يدرك في قراره نفسه أن تنحية خروتشوف، ربما كانت بسبب الأزمة الاقتصاديّة لكنّ قراره نصب الصواريخ في كوبا والتراجع عن ذلك لاحقًا ساهم دون شكّ في ذلك، ومن هنا فإنّ بوتين يعمل على إنهاء الأزمة بشكل يمكنه تسويقه للشعب الروسّي بأنه فوز وانتصار، ولو ليس بالضربة القاضية ( احتلال أوكرانيا ومنع حلف الأطلسّي من ضمّها إليه ) وإلا قد يكون مصيره كمصير خروتشوف، لكن ليس على المدى القريب، إذ إنّ بوتين سيبقى رئيسًا حتى بداية العقد القادم على أقلّ حدّ، علمًا أنّ وزارة الدفاع الروسيّة أعلنت صباح الثلاثاء، أنّ قسمًا من قوّاتها العسكريّة المنتشر بالقرب من أوكرانيا، باشر بالعودة إلى ثكناته، وهو ما دفع أنتوني بلينكن وزير الخارجية الأمريكيّة إلى الإعلان أنّ مسار الدبلوماسيّة سيظلّ مُتاحًا إذا اختارت روسيا الحوار بحسن نيّة، وأنّ الإدارة الأمريكية ستبقى على تواصل مع الحكومة الروسيّة بعد مكالمة الرئيسين الأمريكيّ جو بايدن والروسيّ فلاديمير بوتين، ومحادثاته مع وزير الخارجيّة الروسيّ سيرغي لافروف، ناهيك عن أنّ ما يجري حول أوكرانيا يؤكّد احتمال عودة بعض القادة والدول إلى استخدام شريعة الغاب، أي القوة العسكريّة أو الاقتصاديّة لحلّ الخلافات، رغم أنّنا اعتقدنا أنها لم تعد قائمًة منذ 1945 في أوروبا رغم وجودها حتى اليوم في الشرق الأوسط، والدول الفقيرة خاصة تلك التي تملك ثروات طبيعيّة كالكويت التي اجتاحها العراق ، أو العراق الذي اجتاحه تحالف دولي من 45 دولة في حرب الخليج الأولى، وأفغانستان وسوريا، وأن الحل العسكريّ ما زال يعشّش في عقول قادة إسرائيل على كاّفة واختلاف انتماءاتهم، خشية ما يسمونه بالخطر الوجوديّ على إسرائيل من الدول العربيّة المجاورة التي تناصبها العداء ( يتضاءل عددها بشكل متواصل )، والتي تهدّد بالقضاء عليها.
وهنا لا بدّ من الإشارة إلى أنّ التاريخ الحديث، ومنذ نهاية الحرب العالميّة الثانية لم يشهد حالة اختفت فيها دولة بسبب حرب خارجيّة، رغم حالات سيطرت فيها دول على أخرى كما تم في حالة سيطرة اليمن الشماليّ على اليمن الجنوبيّ، وفيتنام الشماليّة على فيتنام الجنوبيّة، وسيطرة الصين على منطقة التبت، بل إنّ الدول تتفكّك نتيجة صراعات داخليّة، كما حدث في يوغسلافيا السابقة والعراق حاليًّا.
" تسييس القضاء "
" شريعة الغاب " وفي مجال آخر، كانت أساس قرار الرئيس الأمريكيّ جو بايدن إجراء إصلاحات على المحكمة العليا، وإعلانه بعد استقالة القاضي في المحكمة العليا ستيفان برايير عن نيته تعيين سيدة ملوّنة بدله في المحكمة ناهيك عن قراره تشكيل لجنة خبراء مكوّنة من خبراء ديمقراطيّين وجمهوريّين، ستدرس الجوانب الأكثر حساسيّة لإصلاح المحكمة العليا، ومنح هذه اللجنة ستة أشهر لتقديم توصياتها، إذ أعلن البيت الأبيض أنّ هذه المبادرة هي جزء من التزام الإدارة بتحسين العدالة الفيدراليّة، وأنّه سيرأسها بوب باور وكريستينا رودريغيز، وهما أستاذا قانون بارزان، فتركيبة المحكمة العليا الأمريكيّة تمامًا كما في إسرائيل تكون عادة محلّ تجاذبات بين الديمقراطيّين والجمهورييّن، وبالتالي اعتبر زعيم الجمهوريّين بمجلس الشيوخ ميتش ماكونيل أنّ الإعلان عن إنشاء هذه اللجنة يمثّل هجوما مباشرًا على النظام القضائيّ المستقلّ في أمريكا وعلامة جديدة على تأثير أقصى اليسار على إدارة بايدن، خاصة أنّ المحكمة تضمّ حاليًّا ستة قضاة محافظين، من أصل تسعة، ثلاثة منهم عيّنهم الرئيس الجمهوريّ السابق دونالد ترامب وفق " شريعة الغاب "، أي استخدام القوة السياسيّة والدستوريّة هذه المرة لفرض الحقائق على أرض الواقع، أو داخل المحكمة العليا الأمريكيّة، وهو الأمر الذي دفع بمرشحين في انتخابات الحزب الديمقراطيّ التمهيديّة، بمن فيهم وزير النقل الحالّي بيت بوتيجيج، إلى طرح إمكانيّة زيادة عدد القضاة في المحكمة العليا، وهو أمر يثير غضب الجمهوريّين، لكنّ خطوة بايدن هذه تجيء في وضع جعلها تثير غضب الكثيرين وثقتهم بأنها محاولة لجعل المحكمة العليا سياسيّة موالية للديمقراطيّين الليبراليّين، ومعادية أو مناوئة للجمهوريّين المحافظين، خاصّة على ضوء ما نشره مركز " غالوب " للأبحاث حول الأوضاع في أمريكا والذي جاء فيه أنّ معظم مناحي الحياة هناك تشهد تدهورًا، ومنها ثقة المواطنين بالمؤسّسات القضائيّة والدستوريّة، الوضع الماديّ وتوزيع الثراء، جودة البيئة، الاقتصاد، العلاقات الخارجيّة، جودة التربية والتعليم، القوة العسكريّة الأمريكيّة، الحرب ضد العنف، ومحاربة الفقر وهكذا دواليك، وهو ما يثير الشكّ بان بايدن يريد " تسييس القضاء " خدمة لأهدافه وأغراضه وضدّ المنافسين، وهو كذلك الأمر في إسرائيل التي تشهد تآكلًا في ثقة المواطنين بالشرطة والقضاء والسلطات سببه الخلافات الدائمة حول تعيين القضاة خاصّة في المحكمة العليا والاتهامات المتبادلة بين المحافظين من اليمين والليبراليّين من المركز واليسار، باستخدام منطق " شريعة الغاب " في التعيينات القضائيّة.
لكن ما يزيده خطورة هنا في إسرائيل هو أنّه تحوّل إلى توتّر سياسيّ بين اليسار وبين اليمين والمتدينين الذين يعيشون، وهم كون الجهاز القضائيّ يتساوق مع " شريعة الغاب " ليبراليًّا ويساريًّا يساند العرب والفلسطينّيين، وكون الشرطة تحاول " تلفيق التهم " لقادة اليمين ورئيس الوزراء السابق بنيامين نتنياهو، وبالتالي حاولت حكومات اليمين طيلة العقد الأخير تطبيق " شريعة الغاب " وتجسيد سيطرتها السياسيّة والبرلمانيّة على شكل تعيين قضاة من مريدي ومؤيدي اليمين السياسيّ والدينيّ والاجتماعّي، وتعيين " حراس قانون " في الشرطة وجهاز رقابة الدولة ينتمون إلى اليمين، ما دفع اليسار الليبراليّ إلى اتهامهم بتسييس الجهاز القضائيّ، تمامًا كما يتهم اليمين اليوم الشرطة والنيابة العامة بتلفيق التهم ولوائح الاتهام لنتنياهو، أي أنه يقول بصريح العبارة إنّ قرارات هذه الهيئات سياسيّة وغير موضوعيّة، ولا تتسم بالنزاهة، في انعكاس واضح لآفة كانت على نار هادئة في البلاد والعالم قبل الكورونا، وستبقى بعدها ملخصها انخفاض ثقة المواطنين في الدول المختلفة، وفي حالتنا هذه إسرائيل وأمريكا، بالقضاء والمحاكم وسلطات فرض القانون، خاّصة تلك الدول التي تعيش صراعات سببها فساد مسؤولي السلطة وممارستهم الفئويّة والمحسوبيّة، ورفض الحسم الديمقراطيّ، وإضعاف أجهزة تنفيذ القانون بدلًا من تعزيز الديمقراطية الشاملة للجميع. وعندما يستغلون التوترات الموجودة أو يثيرون توترات جديدة بين الجماعات العرقية والدينية والمجتمعيّة من خلال تفضيل إحداها وتهميش الجماعات الأخرى، ما يؤدي إلى حالة من تفكّك النسـيج الاجتماعيّ للمجتمع، وازدياد خيبة الأمل من الحكومة والسلطة، ما قد يؤدّي إلى زيادة حدّة الصراع العنيف والجرائم الخطيرة والإرهاب. وفي بيئة كهذه تعمل المنظمات الإجراميّة، أو الجماعات المتطرّفة علــى استمرار الانقسامات الاجتماعيّة وتعميقها، وتستغل في الوقت ذاته الفراغ السياسي والأمني لتحقيق أهدافها المالية والأيديولوجيّة، وتكريس الادّعاء أنه يتم فُرضَ القانون من قبل هيئات لا تحوز على ثقتهم، وأنها تجْبِر المجتمع على الانصياع لقراراتها خلافًا للواقع السياسيّ، وأنها تصدر عن من يُنظَـر إليـه باعتباره مؤسسات غير مشروعة، أو يتم تطبيقه فقط على من لا سلطة له.
ولذلك، فالقانون وقرارات هذه الأجهزة غير دستوريّة وليست ملزمة، وهي حالة خطيرة، لأنّه لا يمكـن تحقيـق سـيادة القانـون القويّـة إلا بتعاون جميع أفراد المجتمع، مع الحكومة نحو ثقافة سيادة القانون والمجتمع المدني، لإعادة وضـع عقد اجتماعيّ يجّسد الاعتقاد بأنّ سيادة القانون ليست أمرًا اختياريًّا فقط، بل إنها إلزاميّة بغض النظر عن الموقف السياسيّ، وأنّه يمكن لسيادة القانون أن تترسخ فقـط عندما تتعامل مع ما قـد يقوضهـا من ديناميكيّات سياسـيّة وديناميكيّات السلطة، علمًا أنّ الثقة بالقضاء تنخفض في كافّة دول العالم ومنها فنلندا على سبيل المثال التي انخفضت فيها ثقة المواطنين من 76% الى 64%، وهو ما يفسّره بحث إيطاليّ جاء فيه أنّ الظاهرة تتعمّق لدى الفئات الشابة، وذلك بسبب انكشافهم إلى قضايا الفساد مع الإشارة إلى أن أحد معطيات الدراسة أشار إلى أنّ مصوتين للمرّة الأولى انكشفوا لمظاهر المحسوبيّة والفساد، سيحافظون على انعدام ثقتهم بالسلطات والمحاكم لمدّة عقدين وأكثر بعد ذلك.
" شلل اقتصادي وفكري "
" شريعة الغاب " هي ما تعبّر عنه أيضًا قضيّة استخدام منظومات التجسّس السايبرانيّ، من قبل الشرطة وخاصّة منظومة بيجاسوس لشركة " NSO " لتعقّب مسؤولين ونشطاء اجتماعيّين، وقبلها ما تم نشره عن دور هذه المنظومة في تعقب المرحوم جمال خاشقجي المعارض السعوديّ حتى قتله وملاحقة معارضين سياسيين في دول الخليج وحتى زعماء دول، فهي نتيجة لرغبة الأقوياء تقنيًّا أو استخباراتيًّا بفضل هذه المنظومة في اجتياح وخرق واستباحة مخزونات معلومات خصومهم الأضعف منهم تقنيًّا وماليًّا، وهي ما استغله اليمين دون مبرر للمطالبة بلجنة تحقيق رسميّة وبتأجيل أو إلغاء محاكمة نتنياهو متناسين أنهم من عيّنوا قادة الشرطة الذين تمّت عمليات التجسّس هذه في فتراتهم، وخلال فترات استلم وزراء من اليمين والحركات المتدينة المسؤولية عن وزارة الأمن الداخليّ والقضاء وغيرها، وبينما كان نتنياهو رئيسًا للوزراء الذي كان قد طالب المفتش العامّ للشرطة آنذاك روني الشيخ باستخدام السايبر للسيطرة والتعقّب وكشف الجرائم، وهو ما كان الشيخ قد فعله في منصبه السابق في جهاز الأمن العامّ من استخدام لمكامن قوته للسيطرة على الآخرين واختراق خصوصيّاتهم وربما المسّ بهم.
عودة شريعة الغاب في العلاقات بين الدول، أو العلاقات بين الفئات والمجموعات والأعراق داخل الدول، وبمختلف أشكالها وأدواتها ووسائلها العسكريّة والسياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة ( كفرض رأي الأغلبية على الأقليّة في القضايا الاجتماعيّة والقيميّة والدينيّة كما يتكرر في مجتمعنا وبلادنا)، أو سيطرة عصابات الإجرام والخاوة في المجتمع العربيّ بالحديد والنار (شريعة الغاب)، هي الخطر الذي يهدّد استقرار المجتمعات والدول ويمزّق نسيجها الداخليّ، ويصيبها بالشلل الاقتصاديّ والفكريّ والاجتماعيّ. وهو نفس الخطر الذي يهدد المجتمع الدوليّ عبر تكريسٍ وشرعنةٍ لسياسات القوة وفرض الهيمنة التي تتبعها الولايات المتحدة الأمريكيّة وروسيا عالميًّا وإسرائيل وإيران إقليميًّا، والتي أدّت إلى تدهور مريع في العلاقات الدوليّة وسيادة شريعة الغاب محلّ سيادة القانون، وكانت الأمم المتحدة أّول المتضررين منها. ولذلك، أقول إنّ على المجتمع الدوليّ الحذر ثمّ الحذر من المجازفة بعودة " شريعة الغاب " وسيطرتها على العلاقات بين الدول والشعوب وداخل الدول والمجتمعات. فالمجتمع الدوليّ بكافّة فئاته ومركباته وتوجّهاته هو صاحب المصلحة الأولى كي يكفل أن تحلّ سيادة القانون محلّ شريعة الغاب في جميع مجالات النشاط وجميع مجالات التنظيم الاجتماعيّ والسياسيّ.
هذا المقال وكل المقالات التي تنشر في موقع بانيت هي على مسؤولية كاتبيها ولا تمثل بالضرورة راي التحرير في موقع بانيت .
يمكنكم ارسال مقالاتكم مع صورة شخصية لنشرها الى العنوان:[email protected].
من هنا وهناك
-
الحديث عن صفقة في غزة: بين ضجة فعلية وضجة مفتعلة
-
‘نداء لاعضاء المجلس البلدي في الطيبة‘ - بقلم : د. حسام عازم سكرتير جبهة الطيبة
-
مقال: سقف التوقعات ... وأثره على استقرار الفرد ونجاحه - بقلم: بلال سعيد حسونة
-
مقال: الهجرة غير الشرعية إلى أوروبا عبر تركيا دروب الموت والابتزاز - بقلم : د. حسن العاصي
-
مائير بن شبات يكتب : الاختبار الإسرائيلي في لبنان - حزب الله سيحاول استرجاع كرامته الضائعة
-
يوسف أبو جعفر يكتب : حتى نلتقي - الوهم
-
هل يوجد ما بعد قرارات المحكمة الجنائيّة الدوليّة ؟
-
د. جمال زحالقة يكتب : إسرائيل توقف الحرب على لبنان مضطرة
-
كيف يرتبط الفقر وغاز الأوزون بمرض السكري؟
-
قراءة في كتاب سعيد نفاع ‘عرب الـ 48 الهوية الممزقة بين الشعار والممارسة‘ - بقلم : زياد شليوط – شفاعمرو
أرسل خبرا