المحامي زكي كمال يكتب : ‘الديمقراطيّة‘ في مفهوم دونالد ترامب وبنيامين نتنياهو بقاؤهما في السلطة!
04-04-2025 09:31:31
اخر تحديث: 04-04-2025 13:13:00
ما أشبه ما يحدث لديهم في الولايات المتحدة، منذ استلام الرئيس الجديد دونالد ترامب مهامّ منصبه رئيسًا في ولاية ثانية، وبين ما يتكرّر في دول عديدة تدّعي الديمقراطيّة والليبراليّة والمساواة والشفافية،

المحامي زكي كمال - تصوير: قناة هلا وموقع بايت
بما فيها إسرائيل، وأقصد الخطوات التي يتّخذها الحكَّام في الولايات المتحدة والأرجنتين، أو هنغاريا وبولندا وحتى إسرائيل، أو قادة آخرون في دول كانت دكتاتوريّة، وانتقلت بثورة أو انقلاب، أو غير ذلك إلى نظام حكم غير واضح المعالم، كما هو نظام أحمد الشرع (أبو محمد الجولانيّ) في سوريا، يتظاهر ربما بالليبراليّة والانفتاح، لكنّه في حقيقة الأمر غير ذلك، وأقصد هنا محاولة تطويع السلطة لرغبات شخصيّة وضيّقة تخدم مصلحة حزب ما أو توجّه ما، دون أن يأخذ بعين الاعتبار المصالح العامّة لفئات ومجموعات، ربما يختلف معها في الموقف والطرح، لكنها تبقى كلّها مقبولة ومعقولة وشرعيّة ما دامت في صلب، أو داخل حدود النقاش الجماهيريّ والحزبيّ الديمقراطيّ بشكل مغاير للديمقراطيّة والليبراليّة نهايته وخلاصته تحويل الأغلبيّة الديمقراطيّة إلى دكتاتوريّة الأغلبيّة، كما في إسرائيل منذ عام 2022 تحديدًا ومحاولات الانقلاب الدستوريّ والسيطرة على التعيينات، وكما في تركيا الحاليّة وهنغاريا من مسّ بحريّة الصحافة واستقلاليّة الجهاز القضائيّ، وملاحقة المعارضين السياسيّين، أو إلى سلطة الحاكم الواحد غير محدود الصلاحيات، والذي تعتبر أوامره التنفيذيّة التي يوقّعها، وقد تكون عشرات الأوامر يتمّ توقيعها خلال ساعة واحدة، سارية بشكل فوريّ، دون حاجة إلى العودة إلى برلمان أو سلطة قضائيّة أو دونها، كما في حالة الولايات المتحدة عامّة، وكلّها ظواهر قد تنذر بتعاظم موجة تراجع الديمقراطيّة والليبراليّة في العالم، أو انتقالها من حكم أو سلطة الأغلبيّة إلى دكتاتوريّة الأغلبيّة .
وإن كانت سلطات الرئيس الأمريكيّ وفق الدستور الأمريكيّ غير محدودة بل كاملة، إلا أن الرؤساء، ومنذ استقلال الولايات المتحدة في الرابع من يوليو عام 1776، اتّبعوا الحذر الشديد في استغلال صلاحيّاتهم، وابتعدوا تحديدًا عن استخدامها في أمور حزبيّة أو خاصّة، وهو نهج حطّمته الانتخابات الأمريكيّة الأخيرة بداية بإعلان الرئيس جو بايدن العفو عن نجله هانتر، المتهم بمخالفات جنائيّة خطيرة، وواصلها بل عزّزها وفاقمها دونالد ترامب الرئيس الجديد مع بداية ولايته يوم الإثنين 20 يناير، كانون الثاني 2025 وذلك عبر ما اتّضح مؤخّرًا من محاولات يقوم بها ترامب مع معاونيه ومستشاريه القضائيين لضمان بقائه في الحكم لولاية ثالثة خلافًا لتعليمات الدستور الأمريكيّ الذي يحدّد فترتين رئاسيتين فقط حتى دون أن تكونا متتاليتين، وما سبق ذلك من وقف لميزانيات للجامعات وابعاد لأمريكيّين يحملون جنسيّة مزدوجة، أو يملكون تأشيرة المكوث في الولايات المتحدة بسبب مواقفهم السياسيّة، وتوقيع سريع على عشرات الأوامر الرئاسيّة التنفيذيّة، لكن الأسوأ هو الإلغاء الفوريّ وبالجملة لقرارات الإدارة السابقة. أما الأخطر في قراراته فكان العفو عن 1500 شخص من أنصاره اقتحموا قبل أربع سنوات مبنى الكونغرس في السادس من يناير 2021، في أعقاب خسارته الانتخابات حينها ضد بايدن، منهم شاب باسم دانييل رودريغز حكم عليه بالسجن لمدّة 12 عامًا، بعد أن اتهم وأدين بمحاولة قتل شرطيّ بعد أن وجّه ضربات من مسدس ليزر كان يحمله، مباشرة ومن مسافة صفر، نحو الشرطيّ مايكل فانون حتى كاد يفقد حياته إذ أصيب بنوبة قلبيّة، رافضين بذلك الحسم الديمقراطيّ، ومحاولة تغييره بطريق القوة، ليكون قرار العفو عنهم جائزة نظير عملهم. وهو قرار يندرج ضمن دعم المؤيّدين وملاحقة المعارضين خاصّة وأن أحد الأوامر الرئاسيّة شمل اتهام الإدارة السابقة أنها كانت إدارة مجرمة، وتخلّله توجّه إلى وزير العدل بالتحقيق في أنشطة الحكومة الفدراليّة على مدى السنوات الأربع الماضية، بما في ذلك النيابة العامّة الفيدراليّة وسلطة الأوراق الماليّة وأسواق الاقتصاد وغيرها، فصلاحيّاته تشمل تعيين السفراء والوزراء وقضاة المحكمة العليا، ومن هنا صلاحيّة إقالتهم كما حدث أكثر من مرّة، منها إقدام ترامب على إقالة وزير الدفاع مارك إسبر عام 2020 بتغريدة في شبكة "تويتر" ما يعني جعل الرئيس سلطة عليا وحيدة وواحدة، لا يمكن محاسبتها إلا في حالات غير اعتياديّة عبر جلسات استماع تسمّى بالإنجليزيّة impeachment تمّ تطبيقها ثلاث مرّات فقط، منذ استقلال الولايات المتحدة، ورؤسائها الـ 47 .
جعل الحاكم أو الحاكم ووزرائه فوق المحاسبة والمساءلة
التزامن الغريب بين توقيع ترامب على المراسيم الجديدة وبين ما تشهده إسرائيل من حرب شعواء بين الحكومة وجهاز القضاء وبين وزير القضاء ياريف ليفين ورئيس المحكمة العليا الجديد القاضي يتسحاق عميت، وإعلان ليفين عدم اعترافه بانتخابه، بل ومطالبة الوزراء عدم التعاون مع المحكمة، وقرار رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو عدم حضور مراسم تنصيب عميت رئيسًا للمحكمة، وذلك لأوّل مرّة منذ قيام الدولة، تمامًا كما فعل رئيس الكنيست أمير أوحانا، وتغيير تركيبة لجنة تعيين القضاة وزيادة قوّة السياسيّين فيها وإخراج ممثّلي نقابة المحامين، ورفض صلاحيّات لجنة التحقيق الرسميّة التي يطالب بها غالبيّة كبيرة من الإسرائيليّين، وإقالة رئيس الشاباك بعد أسبوعين، أو أقل من الشروع بالتحقيق حول علاقات مشبوهة وخطيرة بين موظّفين بارزين في مكتب رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو ودولة قطر وحصولهم على أموال منها، واعتقال اثنين من هؤلاء والتحقيق مع رئيس الحكومة دون أن يكون مشتبهًا به حاليًّا، أي ليس تحت طائلة التحذير، وتعيين الجنرال إيلي شربيط، من سلاح البحريّة سابقًا رئيسًا للشاباك، قبل صدور قرار محكمة العدل العليا في الالتماسات ضدّ إقالته والمتوقّع صدورها حتى الثامن من الشهر الحاليّ، ومن ثمّ العدول عن التعيين لأسباب سياسيّة، وبعد أن اتّضح أن شربيط كان قد شارك كمواطن عاديّ، وبعد انتهاء خدمته العسكريّة في مظاهرة ضدّ الانقلاب الدستوريّ، أو أنه كتب مقالًا انتقد فيه سياسة ترامب المتعلّقة بجودة البيئة، والتلويح بإقالة المستشارة القضائيّة للحكومة، وامتناع نواب في البرلمان ووزراء منهم عن المثول للتحقيق بشبهات جنائيّة خطيرة منها التشهير وخيانة الأمانة واقتحام معسكر للجيش هو "سديه تيمان"، وإصرار رئيس الوزراء على عدم الإعلان صراحةً وعلنًا أنه سيلتزم بقرار المحكمة العليا إذا قرّرت منع إقالة رئيس الشاباك، أو بعده المستشارة القضائيّة للحكومة، وكل ذلك ضمن محاولات تسييس وإضعاف الجهاز القضائيّ للسلطة التنفيذيّة والمستشارين القضائيّين في الوزارات المختلفة لقرارات الوزراء واختيارهم كتعيينات سياسيّة، كما تم في تغيير معايير اختيار المسؤول عن شكاوى القضاة في الجهاز القضائيّ، وتحويله إلى منصب سياسيّ، السيطرة على التعيينات في الشركات الحكوميّة، وإفراغ منصب مراقب الدولة من صلاحيّاته وكذلك منصب مفوّض خدمات الدولة، أو تغيير نظام عمل الشرطة وإخضاعها لقرارات المستوى السياسيّ والوزير إيتمار بن غفير الذي عاد إلى منصب وزير الأمن القوميّ فور إقالة رئيس الشاباك مؤكّدًا أن ذلك كان شرطه، وتشريعات يتم تفصيلها بالمقاس لتناسب مؤيّدي الحكومة ومنها مشروع القانون الذي ينص في "تفسيراته وتعليلاته" على ضرورة منح الحماية لضباط في الجيش ينقلون الى المستوى السياسيّ معلومات هامّة ربما تمّ إخفاؤها عنه، ما سيؤدي إلى العفو عن مؤيّدين لنتنياهو، من تهمة تسريب مستندات استخباريّة خطيرة ما يوازي عفو ترامب عن مؤيّديه ممّن اقتحموا الكابيتول، وحاولوا قلب نظام الحكم، وكلها محاولة لتحويل ديمقراطيّة الأغلبيّة إلى دكتاتوريّة الأغلبيّة والقمع التامّ للأقليّة وحرمانها من الميزانيّات والحريّات، كما هو حال المجتمع العربيّ في إسرائيل منذ السابع من أكتوبر، وإصرار وزيرة المساواة الاجتماعيّة ماي غولان على عدم تحويل الميزانيّات المخصّصة قانونيًّا للمجتمع العربيّ، وعدم تحريك رئيس الوزراء ساكنًا إزاء ذلك رغم التوجّه إليه، ومنح الحكومة صلاحيّات غير محدودة تعني السيطرة التامّة على السلطتين التشريعيّة والقضائيّة، وجعل الحاكم أو الحاكم ووزرائه فوق المحاسبة والمساءلة حتى لو شهدت فترتهم الدستوريّة إخفاقات مثل السابع من أكتوبر تتطلّب التحقيق فيها.
المثالان السابقان، ينضمّان إلى أمثلة أخرى، تتمثّل في تضاؤل قوّة النظام الديمقراطيّ، أو شبه الديمقراطيّ، وانبثاق قوى سياسيّة في الدول الليبراليّة والديمقراطيّة تنكر المبادئ الواضحة للنظام الديمقراطيّ، وتريد تحويله إلى شكل أقل ديمقراطيّة يقترب من سلطة الرجل الواحد، أو السلطة المطلقة، وهو جزء من ظاهرة إقليميّة مثالها الواضح في الشرق الأوسط هو مصر التي وصل فيها الرئيس عبد الفتاح السيسي إلى سدّة الحكم عبر انتخابات هي سمة واحدة من سمات الديمقراطيّة، لكنّه سرعان ما تحول إلى حاكم أوحد عبر تشريعات "ديمقراطيّة" تبقيه رئيسًا حتى العام 2034، وعالميّة واسعة النطاق لأسباب موجات اللاجئين والعنف وغيرها، وتجعل من الحكومات سلطات وحيدة، كما قال المؤرّخ السياسيّ الفرنسيّ، ألكسيس دو توكفيل من أن الديمقراطيّة تعني إنهاء عهد السلطات، أو الكيانات الفرديّة، لكنها هي نفسها التي تجعل الحكومة تملك وحدها جميع الامتيازات، وتصبح القوة الوحيدة والحاسمة. وبكلمات أخرى، خلق كيانات جديدة تلتفّ على الشعور العام السائد بين المواطنين وكأنهم يحكمون أنفسهم، والحقيقة غير ذلك، فهم أدلوا بأصواتهم في يوم الانتخابات، واختاروا حكومة تنقلب إذا أرادت فتصبح سلطة عملاقة ووحيدة، تنقل البلاد من سلطة، أو حكم الأغلبيّة إلى استبداد هادئ للأغلبيّة، في البداية على الأقل، لتكون المرحلة الثانية هي الأخطر وهي استبداد الأغلبيّة، وصولًا إلى استبداد تامّ بعيدًا عن الديمقراطيّة الحقيقيّة التي تقدّس التعدديّة الفكريّة والسياسيّة، وتدعو رغم الاختلافات إلى العمل الموحّد ضمن نظام سياسّي يضمن المساواة بين المواطنين ويضمن لهم أمنهم، ويحافظ على حريّة الفرد ويشجع المبادرات الاقتصاديّة والعلميّة والحضاريّة بعيدًا عن أيّ من الاعتبارات الفئويّة الضيّقة، ما يدفعني للقول أن ترحيبنا بالديمقراطيّة لمجرّد تسميتها بذلك واعتقادًا منّا أنها العكس التامّ للظلم والضمان الأكيد لحريّة الفرد وحياته وكرامته، جعلنا ننسى أنها يمكن أن تخلق بسهولة نموذجها المميّز والخاصّ من الظلم الذي يمكِّن مجموعة الأغلبيّة، من ممارسة سطوتها وربما بطرق عدائيّة وقاسية تجاه الأقليات السياسيّة والعرقيّة والدينيّة.
الخطر الأكبر والأوّل على الديمقراطيّة يأتي من الديمقراطيّة نفسها
إزاء ما سبق من تقهقر الديمقراطيّات في العالم ابتداءً من أوروبا وأمريكا والتي تقترب من اللاديمقراطيّة، أؤكد هنا أن الخطر الأكبر والأوّل على الديمقراطيّة يأتي من الديمقراطيّة نفسها، أي من إساءة استخدامها واستغلالها لتحويل سيادة الأغلبيّة إلى استبداد الأغلبيّة، وهو ربما ما كان السبب في التغيير الذي طرأ حتى على الطروحات ذات الصلة للمؤرخ توكفيل بين الجزأين الأوّل والثاني من كتابه المشهور "الديمقراطيّة في أمريكا"، لينتقل من الحديث عن سيادة الشعب في الجزء الأوّل، إلى الحديث عن سلطة "فرديّة"، بمعنى تحوّل الديمقراطيّة إلى دكتاتوريّة "ناعمة أو ليّنة"، هي دكتاتوريّة الحزب الواحد والزعيم الواحد، الذي يحرّك الأمور وفق أهوائه، ويعتبر مصلحته فوق كل اعتبار وتحديدًا بقاءه السياسيّ، وهي حالة تحدث كما تثبت الأمثلة السابقة التي أوردتها، وتحديدًا ما يحدث في الولايات المتحدة وإسرائيل، تؤكّد أن انتقال الديمقراطيّة إلى دكتاتوريّة الأغلبيّة، أو دكتاتوريّة الحاكم الأوحد، يكون أسهل نسبيًّا في الدول التي تعيش حالة استقطاب داخليّ حادّة للغاية، وهو ما تشهده إسرائيل منذ نحو ستّة أعوام شهدت خلالها خمس معارك انتخابيّة ومحاولة انقلاب قضائيّ زعزعت أركان المجتمع الإسرائيليّ، وحوّلته إلى قبائل وفصائل يتمّسك كلّ منها بموقفه رافضًا، خاصّةً بعد الحرب التي اعتقد كثيرون أنها ستخفّف حدّة العداء الداخليّ والاستقطاب، لكن الحال جاء معاكسًا، خاصّة على ضوء رفض الحكومة تحمّل مسؤوليّة أحداث السابع من أكتوبر، وتبادل التهم بالخيانة وغيرها، والمستجدّات التي رافقت إطلاق سراح الرهائن واتهامات صريحة لرئيس الوزراء أنه عطَّل الصفقات عدّة مرّات، واتهام مقابل لمن يطالب بالصفقة بأنه يؤيّد "حماس" . وهذا ما تشهده الولايات المتحدة في العقود الأخيرة عامّة ومنذ العام 2016، أي اعتلاء ترامب سدّة الحكم وقبلها بسنتين ربما، حيث تحوّلت من بلاد تستقطب كافّة الشعوب باعتبارها نموذجًا للديمقراطيّة والمساواة، إلى بلاد تسودها المواقف المتطرّفة والمتزمّتة سياسيًّا، ومشاعر الكراهية تجاه الملوّنين من مواطنيها، وتنافر داخليّ عميق جعل الآلاف يقتحمون الكابيتول، رافضين الحسم الديمقراطيّ عام 2020، وكلها في كلتا الحالتين الإسرائيليّة والأمريكيّة، ظروف تسمح للطروحات والأفكار والمواقف المتطرّفة بالسيطرة على المجال العامّ السياسيّ والإعلاميّ والجماهيريّ تغذّيها وسائل التواصل الاجتماعيّ، أما في مصر فالنتيجة ذاتها، لكن الظروف والأسباب تختلف قليلًا، خاصّة وأنها دولة لا تتمتّع بتاريخ ديمقراطيّ ليبراليّ، ناهيك عن أن الانتخابات التي أوصلت النظام الحاليّ جرت وسط توتّرات سياسيّة داخليّة، بعد الإطاحة بالرئيس المنتخب قبل ذلك محمد مرسي، ووسط حالة من الانهيار الاقتصاديّ والخوف، وهي حالات تدفع بالناخبين والمواطنين إلى اختيار شخصيّات، أو أحزاب قد تكون متطرّفة، لكنّها تعد بإنقاذ البلاد من مشاكلها الكبيرة وصعوباتها وإعادة الأمن والاستقرار، وهي شخصيّات أو أحزاب عادة ما تنقلب على الناخبين، وتمتنع عن العمل لتحقيق وعودها وتعهداتها، بل إنها تحاول وقف العمل وفق النظم والاعتبارات الديمقراطية بمجرد وصولها إلى السلطة، مستغلة بذلك امرين أولهما الانقسام الداخلي وتأليه القائد، وثانيهما عدم مبالاة المواطنين سياسيًّا، واعتبار دورهم يقتصر على التصويت فقط، خاصّة إذا ما اعتقد المواطنون أنهم لن يفلحوا في التأثير، أو إحداث التغيير السياسيّ، وهي حالة تكاد تنحصر بين الأقليّات، وأنماط تصويت المواطنين العرب ونسب تصويتهم المنخفضة في الانتخابات البرلمانيّة والتي لا تكاد تزيد عن 60%، مقابل تصويت يبلع 95% في انتخابات السلطات المحليّة الحمائليّة والقبائليّة دليل واضح. وهذا هو الانزلاق نحو دكتاتوريّة الأغلبيّة التي ترافقها عادة تشريعات تسمح بقمع حريّة التعبير للأقليّات، وخلق أجهزة أمنيّة تراقب المعارضين، وحالة الشرطة في إسرائيل في العامين الأخيرين خير مثال.
إذن، يتغيّر النظام الديمقراطيّ حين تعتقد النخب السياسيّة والعسكريّة وكذلك الاقتصاديّة أنه لم يعد يخدم مصالحها وأهدافها بالشكل الصحيح، وبالتالي برزت في العقدين الأخيرين، وفي الولايات المتحدة بداية ظاهرة سيطرة رؤوس الأموال على السياسيّين، وتمكينهم من إضعاف الديمقراطيّة وتكريس سلطتهم المطلقة، خدمة لطبقة من المتموّلين والأغنياء، وتمكينها من تعميق سيطرتها على البلاد ، وهي ظاهرة وصلت إسرائيل عبر علاقات وثيقة بين السياسيّين ورجال الأعمال تبرز دائمًا على حساب الشفافية والديمقراطيّة والمساواة والمنافسة الشريفة، ومحاكمات نتنياهو، خاصّة التهم بتلقّي الرشوة وخيانة الثقة جرّاء علاقاته بأصحاب شركة "بيزك" للاتصالات وموقع" واللا" الإخباريّ، دليل على ذلك يضاف إليها وجود وسائل إعلام يموّلها أثرياء مقرّبون من السياسة تخدم مصالح ومواقف رئيس الحكومة ومنها "قناة 14"، ومحطّات إذاعيّة وقبلها صحيفة "يسرائيل هيوم" التي موّلتها مريام إيدلسون وزوجها شلدون إيدلسون.
ختامًا: ما قلته سابقًا أكّدته أبحاث منها ما نشرته صحيفة الإيكونوميست من معطيات حول دراستها التي شملت 74 دولة مصنّفة على أنها ديمقراطيّة من أصل 167 دولة تناولتها الدراسة، اتّضح من خلالها ان 24 منها فقط يعيش فيها أقلّ من 8% من سكان العالم، يمكن اعتبارها دولًا ديمقراطيّة كاملة تحترم الحريّات السياسيّة والمدنيّة الأساسيّة، وتضمن حريّة ونمو وتطوّر وازدهار مواطنيها، بينما الباقي، أي 50 من الدول التي تمّت دراستها ومنها الولايات المتحدة والبرازيل وتايلند وإسرائيل، تستحقّ وصفها بأنها ديمقراطيّات منقوصة، أو شكليّة، تشهد انتخابات، لكنّها تعاني سمات عديدة تناقض الديمقراطيّة، ومنها محاولة تقزيم سلطة القانون، وانتهاك حريّة الإعلام وحقوق الأقليّات على اختلافها.
خلاصة القول: الديمقراطيّة التي اعتبرها كثيرون الدواء السحريّ لكافّة مشاكل التمييز والتفرقة وعدم المساواة، تفقد بشكل متواتر بريقها وهيمنتها، لأسباب عديدة ملخّصها التطوّرات السريعة في العالم، ونشوء أحزاب وشخصيّات تريد الديمقراطيّة شعارًا يسهِّل الوصول إلى الحكم، ثم وسيلة للتمسّك به عبر إضعافه وتحويله إلى مقدّمة للتسلط، وبالتالي يجب القول إن وجود الديمقراطيّة لا يحدّده ولا يكفيه، التصويت في صناديق اقتراع، بل إن هناك حاجة ماسّة لتوفّر عقد اجتماعيّ وأخلاقيّ، أو وعي مجتمعيّ وديمقراطيّ ( لا يتوفّر في الكثير من دول العالم وخاصّة في الدول العربيّة، أو عند المواطنين العرب في إسرائيل) ودونه ستكون الطريق قصيرة، لكنّها أكيدة إلى دكتاتوريّة الأغلبيّة التي حاول رؤساء أمريكيون منعها ومنهم الرئيس السادس والثلاثون ليندون جونسون، عبر سياسته التي أرادت تعزيز الديمقراطيّة عبر انتهاج نموذج (DEI ( Diversity, equity, and inclusion المساواة والتنوع والشموليّة، أما الواقع اليوم فهو أنظمة ديمقراطيّة الاسم والتسمية، يحكمها حكّام تحرّكهم نزعة الفردانيّة والمصلحة الشخصيّة، يستغلّون الديمقراطيّة وسيلة للقضاء على الديمقراطيّة!!
والدليل الأكيد دونالد ترامب الأمريكيّ وشريكه في السياسة والمصير بنيامين نتنياهو اللذان على قناعة بأن بقاءهما في السلطة هو لإنقاذ البلاد وليس تدميرها!!!
هذا المقال وكل المقالات التي تنشر في موقع بانيت هي على مسؤولية كاتبيها ولا تمثل بالضرورة راي التحرير في موقع بانيت .
يمكنكم ارسال مقالاتكم مع صورة شخصية لنشرها الى العنوان: bassam@panet.co.il
من هنا وهناك
-
شكر وامتنان لأستاذي غزال أبو ريا - بقلم : صالح ابوريا مفتش التربية اللامنهجية
-
مقال: هل نقترب من سيناريو زلينسكي في البيت الابيض، مع نتنياهو هذه المرة ؟ بقلم : د. سهيل دياب-الناصرة
-
المحامي وجدي حاج يحيى يكتب : صدام الدولة العميقة
-
مقال: ‘عظم الله اجركم في مجتمع يقتل كل يوم‘ - بقلم : شعاع حجيرات
-
مقال: اسرائيل في حالة هستيريا وازدحام الملفات الضاغطة على نتنياهو - بقلم : د. سهيل دياب
-
المحامي زكي كمال يكتب : في الشرق لا جديد يُذْكَر - بل قديمٌ يتكرّر
-
أسعد عبد الله يكتب : كيف يمكن لكيان سياسي الفوز بالانتخابات؟
-
مقال: إقالة بولر لم تكن بسبب دوره في المباحثات مع حماس بل لتصريحاته حول أنه لا يعمل لدى إسرائيل أو حكومتها
-
مقال: عام على منتدى الناصرة الثقافي - بقلم : مفلح طبعوني
-
مقال: الرّجوع إلى الحقّ - بقلم : الشيخ عبد الله عياش - عضو حركة الدعوة والإصلاح
أرسل خبرا